غالبة حتى في تلك الأيام. ويروي دوزي Dozy عن الخليفة علي قوله في حقّ تغلب، وهي قبيلة نصرانية، «إن كل ما اقتبسته عن تلك الكنيسة هو معاقرة الخمر» . وبكلمة مختصرة، فأن النصرانية- وهي آخر ديانات العالم المنزلة- كانت [في ذلك الحين] في حكم المفقودة. كانت قد فقدت كل قدرتها الدافعة التي تمكّنها من إحداث إصلاح أخلاقي. وإلى هذا، فأن الدّرك الذي تردّى فيه المجتمع الانساني كله، في طول العالم وعرضه، ليقيم الدليل على صحة التوكيد القرآني. *
ولكن كيف كانت حال بلاد العرب نفسها؟ صحيح ان الشعر العربي كان في ذروة مجده، وان الشعر الجاهلي يتكشّف عن درجة رفيعة من المقدرة والبراعة. وصحيح أيضا ان الكتابة لم تكن مجهولة عند العرب، ولكنهم نادرا ما أفادوا منها أو سخّروها لأيما غرض نافع. وحتى شعرهم نفسه لم يدوّن تدوينا. والواقع ان قصائد العصر الجاهلي كلها تحدّرت الينا من طريق الرواية الشفهية، ما عدا القصائد المعروفة ب «المعلقات» التي دوّنت على ورق، وعلّقت على جدران الكعبة. وفيما يتصل بكون العرب قد طوّروا فن الشعر بحسبنا ان نقول ان مجرد الشعر، بما هو شعر، لا يقدّم لنا محكّا ثابتا للمنزلة التي بلغها الشعب في سلّم الحضارة. فالولوع بالشعر ملاحظ في جميع المجتمعات تقريبا، بالغا ما بلغ إمعانها في الفجاجة والبدائية. وتعليل ذلك ليس بالأمر العسير. فالأمة في مثل هذه المرحلة تنعم بقلة قليلة من الأشياء التي تثير شوقها- وهي أشياء لا تتضاعف إلا بنموّ الحضارة واستبحارها، ومن هنا فأن عنايتها البالغة تنصبّ على الشكل الوحيد الذي في متناولها من أشكال الفن الجميل، وليس ذلك الشكل غير الشعر. ولكن حتى الشعر العربي خلو من رحابة الرؤيا
(*) السورة 30، الآية 41.