بالرعاية الكريمة التي أسبغها النجاشي على اخوانهم شخص عدد منهم في العام الذي تلا إلى الحبشة. وتعرف هذه الهجرة بالهجرة الثانية إلى الحبشة. وبذل القرشيون قصارى جهدهم لكبح جماح هذه الهجرة، ولكن على غير طائل. وباستثناء الاطفال تقاطر على الحبشة مئة مسلم.
ومسلمة، رجالا ونساء. ولقد استقروا هناك، جميعا، ما عدا عثمان.
وزوجته اللذين عادا إلى مكة بعيد ذلك. ولم يلتحق المهاجرون باخوانهم المسلمين في المدينة إلا بعد انقضاء سبع سنوات على هجرة الرسول من مكة. فقد نصّ صلح الحديبية في العام السادس للهجرة على عقد هدنة بين المسلمين والقرشيين مدتها عشر سنوات. فأتاح ذلك للمسلمين قدرا من السلامة في أرض العرب، ويسّر للمهاجرين إلى الحبشة سبيل العودة إلى أهلهم وعشيرتهم. وان فيه كذلك لدليلا على الحقيقة القائلة بأن المسلمين، حتى في المدينة، لم ينعموا بالأمن حتى السنة السابعة للهجرة، عندما زوّدهم صلح الحديبية بفترة من الراحة قصيرة.
ولم ينس المسلمون عطف النجاشي عليهم فبادلوه إحسانا بأحسان.
وتفصيل ذلك أن نزاعا نشب بين النجاشي، خلال اقامتهم في مملكته، وبين إحدى الدول المعادية، فلم يكن منهم إلا ان وضعوا أنفسهم تحت تصرف جيشه. ليس هذا فحسب، بل لقد دعوا الله ان ينصره على عدوه. وهذا يظهر أيّ قوم معترفين بالجميل كانوا. إن شعارهم كان، منذ تلك الفترة المبكرة، هو الآية القرآنية التي تقول: «هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ.» *
ومن الاحداث المتصلة بالهجرة الاولى إلى الحبشة حادثة يجمل بنا ان نقف عندها. فبعيد هذه الهجرة بقليل نزلت على الرسول سورة «النجم» ** التي وردت في خاتمتها الآية التي تأمر بالسجود لله-
(*) السورة 55، الآية 60.
(**) هي السورة الثالثة والخمسون.