مجاعة فأين ابن الخطاب؟ !
التحرير
ذكرت مصادر في برامج الإغاثة الدولية أن عدد الذين يواجهون خطر الموت
بسبب الجوع وسوء التغذية في السودان قد ارتفع هذا العام إلى حوالي مليونين عن
العام الماضي ليصل إلى (1.5) ملايين شخص.
وعزت المصادر الأسباب إلى اتساع رقعة المناطق المنكوبة والتي وصلت إلى
مرحلة الجفاف في جنوب السودان.
وتعاني بعثات الإغاثة من الأمم المتحدة ومنظمات دولية أخرى من صعوبات
ومشاكل تحول دون إيصال قوافل الإغاثة التابعة لها والتي تحمل المواد الغذائية
اللازمة لسكان المناطق المنكوبة بسبب الحرب الأهلية الدائرة في الأقاليم السودانية
الجنوبية بالإضافة إلى التطورات التي حدثت في أوغندا مؤخراً والتي أحدثت شللاً
في حركة المواصلات من وإلى هذه الأقاليم.
وقد عزلت هذه الظروف أقاليم الاستوائية وأعالي النيل وبحر الغزال عن
العالم الخارجي مما يهدد بارتفاع عدد ضحايا الجفاف في هذه الأقاليم التي يصل عدد
سكانها إلى مليوني نسمة.
ونشرت وكالة الأنباء السودانية في 9/10/1985 الخبر الآتي:
(عثر فريق من سائقي الشاحنات على 43 جثة لسودانيين يبدو أنهم ضلوا
الطريق في الصحراء الكبرى أثناء رحلة قصدوا فيها ليبيا بحثاً عن عمل.
ونسبت وكالة الأنباء السودانية إلى مصادر الشرطة في بلدة الفاشر الغربية
قولها: إن السودانيين هلكوا من الجوع والعطش.
وقالت مصادر الشرطة أيضاً: إن سائق الشاحنات عثروا على الجثث متناثرة
في الصحراء على بعد (712) كيلو متراً شمال غرب الخرطوم.
ولم توضح الوكالة السودانية ما إذا كانت الجثث لجماعة واحدة ضلت الطريق
أو لعدة جماعات أو أفراد سلكوا الطريق بحثاً عن العمل، لكنها ذكرت أن وثائق
السفر والجوازات التي كانت بحوزتهم تظهر أن غالبيتهم قدمت من إقليم كردفان
جنوب غربي السودان وهو من الأقاليم التي عانت أكثر من غيرها بسبب موجة
الجفاف والقحط الحالية) .
وقفت مشدوهاً أمام هذين الخبرين وكيف لا أكون مشدوهاً وينتابني الفزع
والقلق وربع سكان السودان المسلمة مهددون بالموت جوعاً؟ ! .
بل والله رحت أتصور منظر 43 جثة متناثرة في الصحراء ... متى بدأوا
رحلتهم، وماذا كانوا يحملون من زاد وماذا أفعل لو كان أخي أو ابني واحداً منهم؟ .
كنت أذكرهم إذا جلست مع أفراد عائلتي على مائدة الطعام، وأذكرهم إذا
أويت إلى فراشي ... وكنت أتساءل:
ماذا قدم المسلمون في كل مكان لإخوانهم في السودان ... بل ماذا قدم الزعماء
والأغنياء السودانيون لإخوانهم؟ ! .
أما الزعماء السودانيون فأمرهم يدعو إلى العجب، وسوف أذكر فيما يلي
نماذج من مواقفهم المؤسفة.
كان كبيرهم السابق - الذي زعم أنه أمير المؤمنين - من أهم أسباب المجاعة.
لقد نهب وسلب وأظهر في الأرض الفساد، ويعيش الآن في رومانيا حياة
المترفين المترهلين، وله في بنوك أوربا عشرات الملايين من الدولارات ...
وكذلك كان من حوله يسلبون وينهبون دون حياء ولا خجل، بل وكانوا يضعون
معظم ما يقدم للجياع في السودان من مساعدات في جيوبهم أو في أرصدة في سرية
في بنوك أوربا ... وقد تاجروا، عليهم من الله ما يستحقون، حتى بنقل يهود
(الفلاشا) إلى فلسطين المحتلة.
- أما الأحزاب السودانية التي يربو عددها على الثلاثين فمشغولون عن
المجاعة بالانتخابات وتبادل الاتهامات والشتائم ... وتتناقل الصحف العربية
والعالمية أخبار الانتخابات بشيء من المرارة والسخرية، ويؤكد المطلعون بأن
مجموع ما أنفقته هذه الأحزاب في المعركة الانتخابية يبلغ بضعة مئات الملايين من
الدولارات، ولمعظم هذه الأحزاب ممولون من خارج السودان، ولهؤلاء الممولين
أهداف لا تبشر بخير.
- وفي جنوب السودان حرب شرسة تهدد وحدة السودان، وتنذر بخطر عظيم، وتمول الحبشة، ومن ورائها الاتحاد السوفياتي الصليبيين الذي يقودهم (قرنق) في
جنوب السودان ... وينفقون على هذه الحرب مئات الملايين من الدولارات.
وقصارى القول: فإن الأموال التي سرقت، والأموال التي أهدرت في
المعركة الانتخابية، والأموال التي تنفق على القتال في جنوب السودان ... هذه
الأموال وحدها كافية لحل مشكلة المجاعة ... ولو كان زعماء هذه الأحزاب يعيشون
مشكلة المجاعة لجمعوا هذه الأموال وشكلوا حكومة هدفها إنقاذ ربع السودان من
موت يهددهم.
أما غير السودانيين، فمما لا شك فيه أن كثيراً من المحسنين في البلدان
العربية أنفقوا مما يحبون من المال وأرسلوا الوفود التي قدمت المساعدات إلى هذه
البلدان المنكوبة، ولكن حاجة المنكوبين أكبر من طاقة جمعيات البر الإسلامية..
فأين الذين يخسرون الملايين من الاسترليني في ليلة واحدة على موائد القمار؟ ! .
وأين الذين يشعلون الحروب هنا وهناك ويتحدثون عن تصدير ثورتهم ...
ماذا عليهم لو صدروا الخير والبر والإحسان؟ ! .
وهذه الدول التي تمول الأحزاب من أجل السيطرة على السودان ماذا يضيرها
لو دفعت هذه الأموال للمواطنين الجياع في السودان؟ ! .
لقد بات من المؤكد أن الاتحاد السوفياتي يمول الحزب الشيوعي كما يمول
بشكل غير مباشر التمرد في جنوب السودان، كما بات من المؤكد أن الولايات
المتحدة الأميركية تمول وتراهن علي حزب آخر، وهي التي كانت وراء مصالحة
(نميري) مع زعيم هذا الحزب ... وهناك أنظمة تمول أحزاباً أخرى، ولا نعتقد أن
نتائج المعركة الانتخابية سوف تكون في مصلحة السودان، مهما كانت هذه النتائج.
والمجاعة ليست قاصرة على السودان..
ذكرت دراسة أعدها البنك الدولي تحت عنوان: (الفقر والجوع ... مشكلات
واختيارات تتعلق بالأمن الغذائي في الدول النامية) .
ذكرت هذه الدراسة أن هناك أكثر من سبعمائة مليون شخص في العالم لا يجدون ما يقوم بأودهم، ومعظمهم يعانون من سوء التغذية، ومعظم هؤلاء
المنكوبين يعيشون في جنوبي آسيا والمنطقة الصحراوية من أفريقيا ... وهذا يعني
أن نسبة كبيرة منهم من المسلمين.
وجاء في هذه الدراسة أن العالم مليء بالطعام، ومع ذلك فالقمح يفسد في
مستودعات الولايات المتحدة ولا توزعه هذه الدولة المجرمة على الجياع البائسين
في العالم وكأنها - أي الولايات المتحدة - أخذت على عاتقها هلاك العالم ودماره إن
لم يكن بالأسلحة الفتاكة ففي منع قمحها وغيره من الأغذية عن الفقراء الذين
يتضورون جوعاً.
والاتحاد السوفياتي ليس أحسن حالاً من الولايات المتحدة ونحن لا نطالبه
بمساعدة المحتاجين البائسين، وإنما نطالبه أن يكف عن مساعدة المتمردين
الصليبيين في جنوب السودان ونطالبه السماح لجمعيات البر والخدمات الاجتماعية
بالقيام بدورها في الحبشة وإتيريا دون قيود من النظام الحاكم في أديس أبابا.
لقد فشل العالم من أدناه إلى أقصاه في وضع الحلول لمشكلة المجاعة، وها
نحن نسمع ونقرأ أخبار عدد كبير من الناس يموتون بسبب كثرة ما يأكلون وعدد
كبير يموتون لأنهم لا يجدون ما يسدون به رمقهم! ! .
ألا ما أحوج عالمنا المعاصر إلى رجل كعمر بن الخطاب - رضي الله عنه
وأرضاه - كان يأكل مع الناس في عام الرمادة [وهو عام أصاب الناس فيه قحط
ومخمصة] فإن جاعوا ظل جائعاً معهم، وكان عليه رضوان الله لا يتميز عن عامة
رعيته بطعام ولا بشراب ولا بلباس، وسارع إلى حمل الدقيق على ظهره عندما
رأى امرأة وأولادها يسهرون من شدة الجوع، وراح - رضي الله عنه - يشعل
النار، وينفخ تحت القدر، وما نام أمير المؤمنين حتى شبع الصبية وناموا.
وقد أجاد حافظ إبراهيم عندما نظم هذه القصة في الأبيات التالية:
ومن رآه أمام القدر منبطحاً ... والنار تأخذ منه وهو يذكيها
وقد تخلل في أثناء لحيته ... منها الدخان وفوه غاب في فيها
رأى هناك أمير المؤمنين على ... حال تروع لعمر الله رائيها
يستقبل النار خوف النار في غده ... والعين من خشية سالت مآقيها
إن جاع في شدّة قوم شرِكتَهُم ... في الجوع أو تنجلى عنه غواشيها
جوع الخليفة والدنيا بقبضته ... في الزهد منزلة سبحان موليها
فمن يساوي أبا حفص وسيرته ... أو من يحاول للفاروق تشبيهاً
لقد بدأ عمر بن الخطاب - رضي الله عنه وأرضاه - بنفسه ثم بأهله، وهكذا
يكون التغيير.
أما الذين يقبعون خلف السجائف والسنور ويتربعون على أرائك وثيرة
ويتقلبون في رغد من العيش، ويملكون الملايين خارج بلادهم. هؤلاء لن يصنعوا
شيئاً للجياع والبائسين لأنهم يقولون ما لا يفعلون، ويخادعون الله والذين آمنوا.
قال تعالى:
[إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ] .
والإسلام الذي صنع عمر بن الخطاب لا يزال كما أنزله الله سبحانه وتعالى
نقياً طاهراً، وهو الذي صنع عمر بن عبد العزيز، وعماد الدين زنكي، ونور
الدين الشهيد، وصلاح الدين الأيوبي، وغيرهم وغيرهم.