responsiveMenu
فرمت PDF شناسنامه فهرست
   ««صفحه‌اول    «صفحه‌قبلی
   جلد :
صفحه‌بعدی»    صفحه‌آخر»»   
   ««اول    «قبلی
   جلد :
بعدی»    آخر»»   
نام کتاب : مجلة المنار نویسنده : رشيد رضا، محمد    جلد : 1  صفحه : 945
الكاتب: محمد رشيد رضا

الاشتراكية والدين
(ملخص من كتابنا: الحكمة الشرعية)
علم مما تقدم عن الإحياء للإمام الغزالي أن عُليا درجات الأخوة ورُتبها هي
كون الإخوان كلهم خُلطاء في الأموال وشركاء، لا يميز بعضهم رحله عن بعض،
ومعلوم أن المؤمنين كلهم إخوة - كما في نص القرآن - وإن كان الكثير بل الأكثر
منهم غير قائم بحقوق هذه الأخوة، وإذا كان بلوغ الرتبة العليا من الأخوة مستحسنًا
ومطلوبًا شرعًا، فهو دليل على أن الاشتراكية التي ينزع إليها بعض الجمعيات في
أوروبا مستحسنة ومطلوبة في الجملة؛ لأن لها أصلاً في الشريعة الإسلامية الحقة
المؤيدة بالعقل الصحيح، مع أننا نرى الحكماء والعقلاء، لا سيما رجال الدين منهم
يطلقون القول في ذمها وذم ذويها، فهل ذلك من الصواب أم لا؟
الجواب الذي يتراءى لنا هو أننا إذا نظرنا في المسألة بعين الحق المجرد
تجلى لنا أن للاشتراكيين مطالب عادلة في الجملة، وأنهم معذورون في تحزبهم
للتحامل على الأغنياء الذين هم يُرَاءون ويمنعون الماعون، وينفقون إسرافًا وتبذيرًا،
ولا يرحمون مسكينًا ولا فقيرًا، لكن بعض مطالبهم جائرة، لا يمكن أن ترضى بها
أمة من الناس، كما ينقل عن بعضهم القول بأن الاشتراك ينبغي أن يكون في كل
شيء، حتى في الأبضاع، وهو سفه من القول لا يقول به إلا السفهاء، وإلى الآن
لم يستطع أحد من زعماء الاشتراكيين أن يأتي بتعاليم للاشتراكية مقبولة عند جماهير
العقلاء المنصفين، ولو طلبوا هاته الرغيبة في الدين الإسلامي لظفروا بها، ذلك أن
الشريعة الإسلامية الغراء تفرض في أموال الأغنياء من عين أو تجارة، وفي نتائج
زراعة الزارعين فرضًا معينًا يخف عليهم أداؤه، تصرفه لمن يعجز عن كسب يقوم
بكفايته من فقير ومسكين وللغارمين وأبناء السبيل إلخ التفصيل المعروف في كتب
الفروع.
وهذا الفرض يُلزم به الأغنياء إلزامًا ويُجبرون عليه إجبارًا، وتُحث الناس بعد
ذلك على التنفل في الصدقة، وعلى الصلة والهدية والمواساة وإكرام الضيوف وعلى
الصداقة والأخوة التي أرفع درجاتها أن يتصرف الصديق في مال صديقه كما
يتصرف في مال نفسه، ولا يصادف منه على ذلك إلا الرضا، بل الفرح
والاستبشار. نعم هذه الرتبة لا يُحمل عليها الناس كرهًا وإنما يُقادون إليها بسلاسل
الآداب الدينية مع الرفق والحكمة إلى أن يأتوها راغبين، وذلك بنشر تلك الآداب
والتربية للأحداث ذُكرانًا وإناثًا على أصول تعاليمها.
لا ريب أن انتهاج هذا المسلك يأتي بفائدة كبرى للأمة، هي السعادة بعينها،
وإن كان وصول جميع الأفراد لمرتبة الأخوة الكبرى بعيد المنال، لما يعترض
التربية من العوارض الخارجية والأحوال، فضلاً عن كون تعميمها لا يتم إلا بالقوة
وكثرة المال، وفي إكراه العموم على ذلك حرج شديد، لا يقول به ذو رأي سديد، ولا
يزال أولئك الاشتراكيون كلاًّ على كاهل أوروبا، ولا يصلون إلى تمام ما يطلبون؛
لأن رجل الدين ورجال السياسة جميعاً يرفضون تعاليمهم ويسفهون أحلامهم، إلا ما
كان من الجمعية الفرنسوية التي تسمى: جمعية الأخوة، فأولئك تشبه أحوالهم
وتعاليهم ما كان من الأخوة في شبيبة الملة، كما تقدم عن الإحياء، وقد صدر عن
هذه الجمعية آثار نافعة لأمتهم من نشر العلوم والفنون الرياضية والفلسفية مقرونة
بالدين المسيحي على المذهب الكاثوليكي، وقد انتشرت مدارسهم في ممالك الشرق
يوطئون المسالك ويمهدون السبل لامتداد نفوذ فرنسا وتسلُّطها على البلاد التي
ينشرون فيها تعاليمهم، كما يفعله غيرهم من جمعيات دول أوروبا في ممالك الشرق،
وأهل الشرق لاهون غافلون عما يراد بهم.
(قاعدة في الطاقة، والكلب يأكل في العجين، يا كلب كُلْ واتهنَّا ما للعجين أصحاب)
بل أهل الشرق نيام، فإذا ماتوا باستعباد الأجانب لهم ونوقشوا الحساب،
وحاق بهم العذاب، انتبهوا، وأَنَّى ينفع الانتباه، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وأجدر
بالمسلمين أن يكونوا هم السابقين لمثل تلك الجمعية، بل ولكل مزية مفيدة مرضية من
المزايا التي سبقتنا بها الأمم الغربية، وما كنا لنستفيق فصبر جميل.
هذا، وإن للاشتراكيين والمتآخين في أوروبا حجة في كتابهم الديني الذي عليه
مدار النصرانية وهو المسمى بالعهد الجديد، فقد ذكر فيه ما نصه:
وكان لجمهور الذين آمنوا قلب واحد ونفس واحدة، ولم يكن أحد يقول: إن
شيئًا من أمواله له، بل كان عندهم كل شيء مشتركًا وبقوة عظيمة كان الرسل
يؤدون الشهادة بقيامة الرب يسوع، ونعمة عظيمة كانت على جميعهم، إذ لم يكن
فيهم أحد محتاجًا لأن كل الذين كانوا أصحاب حقول أو بيوت كانوا يبيعونها ويأتون
بأثمان المبيعات ويضعونها على أرجل الرسل، فكان يوزع على كل واحد له احتياج،
ويوسف الذي دعي من الرسل برنابا الذي يترجم ابن الوعظ لاوي قبرسي الجنس،
إذ كان له حقل باعه وأتى بالدراهم ووضعها عند أرجل الرسل، ورجل اسمه
حنانيا وامرأته سفيرة باع ملكًا واختلس من الثمن وامرأته لها خبر ذلك وأتى بجزء
ووضعه عند أرجل الرسل، فقال بطرس: يا حنانيا، لماذا ملأ الشيطان قلبك
لتكذب على الروح القدس وتختلس من ثمن الحقل، أليس وهو باق كان يبقى لك،
ولما بيع ألم يكن في سلطانك، فما بالك وضعت في قلبك هذا الأمر أنت لم تكذب
على الناس، بل على الله، فلما سمع حنانيا هذا الكلام وقع ومات، وصار خوف
عظيم على جميع الذين سمعوا بذلك، فنهض الأحداث ولفوه وحملوه خارجًا ودفنوه،
ثم حدث بعد مدة نحو ثلاث ساعات أن امرأته دخلت، وليس لها خبر ما جرى
فأجابها بطرس قولي لي: أفبهذا المقدار بعتما الحقل؟ فقالت: نعم بهذا المقدار،
فقال لها بطرس: ما بالكما اتفقتما على تجربة روح الرب، هو ذا أرجل الذين دفنوا
رجلك على الباب وسيحملونك خارجًا، فوقعت في الحال عند رجليه وماتت، فدخل
الشباب ووجدوها ميتة، فحملوها خارجًا ودفنوها بجانب رجلها، فصار خوف عظيم
على جميع الكنيسة وعلى جميع الذين سمعوا بذلك. انتهى من أواخر الإصحاح
الرابع وأوائل الإصحاح الخامس من سفر أعمال الرسل (ابركسيس) .
وفيه أن الاشتراك كان في كل شيء متمول عندهم وهو مصرح به في
الإصحاح الثاني أيضًا، وأن الاشتراك كان مانعًا لأحدهم أن يتصرف في ماله كيف
يشاء ويختار، أو يمسكه عنده، بل كانوا يلزمونه أن يؤديه إلى الرسل، وهم ينفقون
عليه كما يريدون، ألم تر إلى (بطرس) كيف عد (حنانيا) مختلسا عندما أمسك بعض
ثمن الحقل، وهذا الحد من الإفراط لم تقل به الشريعة الإسلامية، ولا في أوائل مدة
الهجرة التي شارك فيها الأنصار المهاجرين في أموالهم طوعًا واختيارًا، وحيث كان
التوارث بالإسلام لا بالقرابة، لما تقتضيه حالة ذلك الوقت، وأما تعاليم العهد الجديد
الذي هو أصل النصرانية، كما ألمعنا إليه قريباً فجميعها ناطقة بالإفراط في التمسك
بالفضائل، وتلزم الآخذ بها أن يكون أزهد الزهاد، لا يتخذ مالاً، ولا يبتغي جاهًا،
ولا يدافع عن نفسه، بل يكون خافضًا ضارعًا مستسلمًا لتصرف الحاكمين،
مستبسلاً لتعدي المعتدين، وقد رفض النصارى تلك التعاليم من حيث التخلق والعمل،
وادعوها بقول الجدل، كما أن المسلمين قصروا بنشر تعاليم دينهم الخالصة من
الشوائب ولم يتخلقوا بأخلاقه على وجه الكمال الذي حدده، نعم إلا قليل منهم، مع أنه
الكافل لهم سعادة الدارين والفوز بالحُسنيين؛ ولذلك جدت أمم النصارى في مصالح
الدنيا وهم قاعدون، فازوا بالتغلب وهم خائبون، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
(المنار)
هذا ما كتبناه في (الحكمة الشرعية) من بضع سنين، ولم نقصد به
الاعتراض على أعمال هذه الملة النصرانية، ولا على تعاليمهم؛ لأننا نعلم أن
الإفراط في التنفير من الدنيا، وفي التزهيد بالمال والسلطة كان مناسبًا لحال ذلك
العصر، لما كان عليه الناس من الفساد والبغي، وطغيان الشهوة والقوة بسبب مدنية
الرومانيين المعروفة، وإنما تتعجب من أحوال الأمتين وعدم انطباقها على تعاليم
الديانتين، وفي العروة الوثقى مقالة نفيسة في هذا الموضوع، سننشرها في عدد تالٍ،
إن شاء الله تعالى.

نام کتاب : مجلة المنار نویسنده : رشيد رضا، محمد    جلد : 1  صفحه : 945
   ««صفحه‌اول    «صفحه‌قبلی
   جلد :
صفحه‌بعدی»    صفحه‌آخر»»   
   ««اول    «قبلی
   جلد :
بعدی»    آخر»»   
فرمت PDF شناسنامه فهرست