طمأنينة قلب العبد وراحته
وبعد هذه المقدمات ننتقل إلى أثر التوحيد، ونقسم هذا الأثر إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول منها: أثره على الفرد: وأعظم أثر للتوحيد على الإنسان هو طمأنينة القلب، فهو طمأنينة القلب وغذاء الروح في هذه الحياة، ولهذا يقول شيخ الإسلام ابن القيم رحمه الله تعالى: وحقيقة المرء قلبه وروحه، ولا صلاح له إلا بتوحيد ربه وعبادته وخوفه ورجائه، وفي ذلك أعظم لذة المرء وسعادته ونعيمه؛ إذ ليس في الكائنات شيء غير الله عز وجل يسكن القلب إليه، ويطمئن به، ويأنس به، ويتنعم بالتوجه إليه، فنفس الإيمان به ومحبته وعبادته وإجلاله وذكره هو غذاء الإنسان وقوته وصلاحه وقوامه، كما دلت عليه السنة والقرآن وشهدت به الفطرة.
نعم والله، إن كل ما يتعلق براحة النفس وطمأنينة القلب وسعادة المرء وقوته وثباته وصلاح حاله، لا يمكن أن يتم إلا بأن ترتبط هذه الأمور كلها بـ (لا إله إلا الله)، وبالعبودية الحقة لله الواحد القهار، ولهذا ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه عبد الله بن عمر بن العاص رضي الله عنهما: (إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب، فاسألوا الله أن يجدد الإيمان في قلوبكم) رواه الحاكم، وحسنه الهيثمي في مجمع الزائد، وذكره الألباني في الصحيحة برقم خمسة وثمانين وخمسمائةٍ وألف.
أيها الأخ المسلم! لا ملجأ من الله إلا إليه، فطمأنينة القلب لا تكون إلا بالله، وضعف الإيمان يولد عند الإنسان ضيق الصدر، وكيف ينجو من ضيق الصدر؟ لا ينجو من ضيق الصدر إلا بالتعلق بالله سبحانه وتعالى، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه: (ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً) نعم -والله- ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً، وهل يمكن أن يذاق طعم الإيمان بغير ذلك من الدنيا بشهواتها وبملذاتها؟ لا والله، لا يمكن أن يذوق الإنسان ذلك الطعم الحقيقي إلا بهذا، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في حديث أنس: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار) متفق عليه.
وانظر كيف ارتبطت هذه الأمور كلها بالحب، فيكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ويحب المرء لا لأي شيء إلا لله، ويكره الكفر والكافرين، ويخاف من أن يقع في الكفر كما يخاف من أن يقذف في النار، وذاك لا ينشأ إلا من تحقيق كلمة التوحيد، أسأل الله أن يجعلني وإياكم من أهل ذلك.
ولهذا كان سلفنا الصالح رحمهم الله تعالى يرون الدنيا تموج بأهلها وشهواتهم، فذاك متعلق بسلطانه، وهذا منقبض على شهواته، وذاك يبحث عن تجارته وأمواله، وهذا يبحث عن الشرف والشهرة، لكن أهل الإيمان قد سكنت وركنت نفوسهم إلى الواحد الديان فتعلقوا به تبارك وتعالى، فعبروا عبارات تدل على الطمأنينة النفسية في قلوبهم، يقول فضيل بن عياض رحمه الله تعالى: إذا غربت الشمس فرحت بالظلام لخلوتي بربي، وإذا طلعت حزنت لدخول الناس علي.
يفرح بالخلوة ويحزن بدخول الناس عليه، لأنه يجد لذته في الخلوة أعظم من لذته وهو عند الناس.
ويقول أحدهم: أهل الليل في ليلهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم، ولولا الليل ما أحببت البقاء في الدنيا.
وقال بعضهم: ليس في الدنيا وقت يشبه نعيم أهل الجنة إلا ما يجده أهل التملق في قلوبهم بالليل من حلاوة المناجاة.
ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (وركعتان في جوف الليل خير من الدنيا وما فيها).
تعالوا إلى الميزان، إذ الركعتان تؤديهما لله وحده لا شريك له، تغرسان في قلبك إيماناً ولذة وسعادة لا يمكن أن تحصل عليها بالملايين، ولا يمكن أن يحصلها الملك، ولا يمكن أن يحصلها الشرف، ولا يمكن أن تحصلها السيارات الفارهة، ولا القصور الضخمة ولا تحصلها إلا ركعتان عبادة لله الواحد القهار.
ولهذا قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه: لولا ثلاث ما أحببت الحياة، ولأحببت أن أنتقل إلى لقاء ربي.
ما هي هذه الثلاث؟ قال: (لولا أنني أحمل في سبيل الله)، يعني الجهاد في سبيل الله، فهذه الأولى.
قال: (وأضع جبهتي على الأرض).
أي: الصلاة.
فهو يفرح بكل صلاة تحضر، يرتاح ويلتذ بها، وقد كان صلى الله عليه وسلم يقول: (أرحنا بالصلاة يا بلال).
وأما الثالثة فقال: (ومجالسة أقوام يلتقطون أطايب الكلام كما يلتقط أطايب الثمر)، أي مجالسة أهل العلم الذين يقربون العبد من الله سبحانه وتعالى.
فهذا هو الأثر الأول.