نام کتاب : شروط النهضة نویسنده : مالك بن نبي جلد : 1 صفحه : 51
فالحضارة لا تظهر في أمة من الأمم إلا في صورة وحي يهبط من السماء، يكون للناس شرعة ومنهاجا، أو هي- على الأقل- تقوم أسسها في توجيه الناس نحو معبود غيبي [1] بالمعنى العام، فكأنما قدر للانسان ألا تشرق عليه شمس الحظارة إلا حيث يمتد نظره إلى ما وراء حياته الأرضية، أو بعيدا عن حقبته اذ حينما يكتشف حقيقة حياته الكاملة، يكتشف معها أسمى معاني الأشياء التي تهيمن عليها عبقريته، وتتفاعل معها.
ومن هنا يستطيع المؤمن ادراك الحقيقة الساطعة التي يفسرها التاريخ، في الفقرة التي وردت في أحد الكتب المنزلة القديمة: "في البدء كانت الروح".
ومن المعلوم أن جزيرة العرب مثلا لم يكن بها قبل نزول القرآن إلا شعب بدوي يعيش في صحراء مجدبة، يذهب وقته هباء لا ينتفع به لذلك فقد كانت العوامل الثلاثة: الإنسان والتراب والوقت راكدة خامدة، وبعبارة أصح، مكدسة لا تؤدي دورا ما في التاريخ، حتى إذا ما تجلت الروح بغار حراء- كما تجلت من قبل بالوادي المقدس، أو بمياه الأردن- نشأت من بين هذه العناصر الثلاثة المكدسة حضارة جديدة، فكأنما ولدتها كلمة (اقرأ) التي أدهشت النبي الأمي وأثارت معه وعليه العالم. فمن تلك اللحظة وثبت القبائل الحربية على مسرح التاريخ حيث ظلت قرونا طوالا تحمل للعالم حضارة جديدة، وتقوده إلى التمدن والرقي.
ومما هو جدير بالاعتبار أن هذه الوثبة لم تكن من صنع السياسيين ولا العلماء الفطاحل، بل كانت بين أناس يتَّسمون بالبساطة، ورجال لا يزالون في بداوتهم، غير أن أنظارهم توجهت في تلك اللحظات إلى ما وراء أفق الأرض أو إلى ما وراء الأفق القريب، فتجلت لهم آيات في أنفسهم، وتراءت لهم أنوارها في الآفاق. [1] ولو كان غيبا من نوع زمني، أي في سورة مشروع اجتماعي بعيد الأمد مثل بناء مجتمع جديد يضع حجره الأول جيل وتواصل بناءه الأجيال المتتابعة.
نام کتاب : شروط النهضة نویسنده : مالك بن نبي جلد : 1 صفحه : 51