وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها، لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ، وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ. فَإِنْ أَرادا فِصالًا عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما. وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (البقرة: 223).
فهذه آية واحدة صيغت من ستة أسطر قرآنية، أي مما لا يزيد على ستين كلمة، وقد تضمنت ثلاثة وعشرين حكما مما يتعلق بنظام الأسرة، لم يستخرج واحد منها تمحلا ولا تكلفا. بل هو بين أن تكون الآية دلّت عليه بصريح المنطوق أو بجلي المفهوم أو بمقتضى النص. وأنت لو رحت تحاول التعبير عن هذه الأحكام بصياغة جليّة دون اختصار
مخلّ أو إطالة من غير لزوم، لاقتضى ذلك منك ما لا يقل عن خمسة وعشرين سطرا من الكلام أي خمسة أضعاف النص القرآني.
وانظر إلى أحكام الميراث في كتاب الله عزّ وجلّ، وتأمل كيف صيغت فيما لا يزيد عن ثلاثة عشر سطرا من أسطر القرآن، موزعة في آيتين. فلقد حوت هاتان الآيتان- في غير إخلال ولا تمحّل- أحوال الوارثين ونصيب كلّ منهم في كل حال من الأحوال. ولقد انبثق من هاتين الآيتين فن مستقل برأسه يمثّل شطرا كبيرا من أحكام الشريعة الإسلامية. وهو ما يسمى بعلم الميراث، وقد كتبت فيه مؤلفات مستقلة. وإنك لتعجب كيف اتّسع مضمون آيتين من القرآن لمدلولات كتاب برأسه ... ولكن انظر، وتأمل وقارن، فستجد أن هذا الذي تعجب منه حقيقة ثابتة.
ثالثا: إخراج المعنى المجرد في مظهر الأمر المحسوس:
ولكي يتجلى لك معنى الإعجاز في هذه المزية الثالثة التي تمتاز بها الجملة القرآنية، ينبغي أن نمهد لذلك بما يلي:
إن الذي أوتي ملكة في الآداب والبلاغة العربية، لا يعدم أن يجد وسيلة