يهمنا في هذا الصدد أن نتلمس أبرز الخصائص التي تظهر في أمثلة القرآن، وعلاقة ذلك ببلاغته وإعجازه.
ونستطيع أن نوجز هذه الخصائص في الأمور التالية:
أولا- تعتبر أمثلة القرآن على اختلافها، لوحات فنية رائعة لتصوير مشاهد الطبيعة بأشكالها وأنواعها المختلفة، وفي هذه اللوحات مشاهد ألفتها العرب وعرفتها في حياتها النوعية الخاصة، وفيها ما لم تعرفه ولا رأته ولا سمعت به مما قد يعرفه بعض الأمم والشعوب الأخرى. فالقرآن إذ يضرب الأمثلة بهذه المشاهد المنتزعة من مظاهر الكون وصوره، يؤلّف بين القيم والمبادئ المجردة التي تنزل من أجلها، والمشاهد الطبيعية التي يعيش الإنسان في أكنافها؛ وفي ذلك من إبراز وحدة الحقائق الكونية وترابطها الكلي ببعضها ما يطول شرحه ويعظم خطره، وليس لنا في هذه العجالة سبيل إلى بسط القول في ذلك.
ثانيا- تأخذ الأمثلة في أغلب الأحيان طابع القصة في عرض الجزئيات وتفصيل صفاتها، وذلك على خلاف المألوف عند العرب من تكثيف المثال وعرضه في أقل قدر ممكن من الكلمات. فالعرب قد يضربون المثل للشيء الخادع بالسراب، دون تعريج على أيّ تفصيل في المثال أو بسط لصورته، ولكن القرآن عند ما يضرب به المثل يبسط منه صورة حيّة يتراءى فيها كيف ينخدع الظمآن به، ثم يسعى وراءه، حتى إذا جاءه فوجئ بأنه ليس شيئا، ووجد بدلا عنه ثمرة انخداعه من الجهد الضائع والانقطاع عن الرفقة والطريق:
وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً، حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (النور: 39).
ثالثا- كثيرا ما تأتي أمثلة القرآن كلاما كاملا مستقلا بذاته، أي دون ذكر للمعنى الممثل له على غرار ما هو معروف في مألوف اللغة العربية وأسلوبها.
وإنما يكون المعنى الممثّل له في هذه الحال مطويا، يشار إليه في تضاعيف المثال ذاته، بحيث لا يجهل السامع أو القارئ المعنى الكلي الذي سيق له