(أما بعد فإني امرؤ من الملطاط الشرقي المواصي أسياف تهامة، عكفت علينا سنون محش، فاجتبّت الذرى وهمشت العرى وجمشت النجم وأعجّت البهم، وهمّت الشحم، والتحبت اللحم، وأحجنت العظم، وغادرت التراب مورا، والماء غورا، والناس أوزاعا والضّهل جراعا، والمقام جعجاعا، فخرجت لا أتلفّع بوصيدة، ولا أتقوّت بمهيدة، فالبخصات وقعة والركبات زلعة، والجسم مسلهم، والنظر مدرهم، فهل من آمر بمير أو داع بخير) [1].
فلما تنزل القرآن، وأقبلت إليه الآذان، أخذت هذه الكلمات الجافية تختفي عن ألسنة العرب رويدا رويدا، وأصبح متن اللغة العربية كله مطبوعا بالطابع القرآني، ونما ذوق عربي في نفوس العرب أنبته لديهم القرآن وأسلوبه.
ومردّ ذلك إلى أن كلمات هذا الكتاب المبين، رغم أنها كانت عربية لم تتجاوز حدود هذه اللغة وقاموسها، تمتاز، في صياغتها وموقع كلّ منها مما قبلها وبعدها بجرس مطرب في الآذن لم يكن للعرب عهد به من قبل، هذا إلى أن كثيرا من الاشتقاقات والصيغ الواردة فيه، تكاد تكون جديدة في النطق العربي، وهي مع ذلك توحي بمعناها إلى الفطرة والطبع، قبل أن يهتدي السمع إليها بالمعرفة والدرس. وسنسهب في إيضاح هذا إن شاء الله عند حديثنا عن إعجاز القرآن. [1] الملطاط، حرف من أعلى الجبل أو جانب منه. والمواصي، أي المتصل. وأسياف جمع سيف يقال لساحل البحر. ومحش بمعنى محرق أي أحرقت الزرع والكلأ. وفاجتبت بمعنى قطعت. والعرى جمع عروة وهي القطعة من الشجر وجشت بمعنى حلقت، والنجم النبات الذي لا يستقيم على ساق، وأعجت البهم أي جعلتها عجايا وهي جمع عجي وهو ما فقد أمه من الإبل، وهمت الشحم: أذابته، والتحبت اللحم أي قشرته عن العظم أي عوجته فصيّرته كالمحجن. وغادرت التراب مورا أي يمور مورا بمعنى يجيء ويذهب، والغور: الغائر، والأوزاع: الأقسام المشتتة، والضهل: الماء القليل، وجراعا جمع جرع وهو ما لا يروي من الماء، والجعجاع: المكان الذي لا يطمئن من قعد فيه. لا أتلفع: لا أشتمل، بوصيدة: أي بأي شيء منسوج، والمهيدة: حب الحنظل، والبخصات جمع بخص: لحم باطن القدم، ووقعه من قولهم وقع الرجل إذا اشتكى لحم باطن قدمه، والزلعة جراحة فاسدة تكون من تشقق اللحم في القدم أو الركبة. ومسلهم:
ضامر متغير. ومدرهم من ضعف بصره بسبب جوع أو نحوه، والمير: العطية من الطعام. هذا وراجع المزهر للسيوطي لتقف على نماذج كثيرة من هذا القبيل.