فالقرآن كما قد علمت لم يصبّ أحكامه وفرائضه في حياة الناس دفعة واحدة، لكنه سعى بهم إليها على مراحل وفي خطوات رتّب بعضها على بعض ومهّدت السابقة منها للّاحقة. وذلك كما قد علمت من دعوته الناس إلى العقيدة الصحيحة أولا، ثم إلى الإصلاح النفسي والاجتماعي ثانيا، وكما قد علمت من تدرجه في تحويل الناس عن عوائدهم وفواحشهم التي تعودوا عليها.
المظهر الثالث: السير بالناس، في كل ما يلزم به من الأحكام، نحو السهولة واليسر؛ وإقناعهم بأن كل ما قد يتصورونه قيودا، ليس إلا أسسا لا بدّ منها لسعادتهم ولصلاح معاشهم ومعادهم، فهو يقول مثلا: ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ، وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [1] ويقول: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [2] ويلفت نظرهم إلى أن الشريعة الإسلامية إنما تحمل إليهم في طيّبها سرّ الحياة السعيدة للفرد والجماعة فيقول: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ [3] ويقول: مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ [4].
المظهر الرابع: أنه يضع المتأمل في آياته في حالة وسطى بين الخوف من عذاب الله تعالى، ورجاء رحمته وعفوه؛ وذلك كى لا يسيطر عليه من الرهبة والخوف ما يجعله في يأس من سعة عفوه، فيمضي بذلك في الطريق التي يشتهيها لاعتقاده بعدم الجدوى من الحذر والاستقامة، ولكي لا يفيض قلبه أملا بمعاني الرحمة والمغفرة وحدها، فلا يجد بذلك ما يصدّه عن ارتكاب أيّ منكر والانحراف إلى أيّ زلل.
والقرآن يربي النفس البشرية هذه التربية باتباع أسلوبين:
الأول: أنه حينما يصف الكفرة والمشركين الذين استحقوا عذاب الله [1] المائدة: 6. [2] البقرة: 185. [3] الأنفال: 34. [4] النحل: 98.