وتأمل في الطريقة التصويرية الدقيقة التي تعبّر بها الآية! مستخف بالليل، أدخل الهمزة والسين على اسم الفاعل ليصوّر لك شدة الطلب والبحث عن وسائل الاختباء والاختفاء المختلفة، فضلا عن أن الليل بطبيعته ساتر ثم:
سارب بالنهار، كلمة تصور لك الشيء إذ يسرب على وجه الأرض بارزا، فأنت تقول: سرب الماء، أي سرى في سجيته على وجه الأرض متشعبا يبرق ويلمع.
والكلمة، زيادة على ما فيها من جمال التعبير تصوّر لك شدة وضوح هذا الإنسان وظهوره مقابل شدة اختفاء ذلك الآخر واستتاره، تقريرا لتساويهما في إحاطة الله وعلمه.
* أما الآية الرابعة فتأتي تأكيدا لما تضمنته الآية التي قبلها. فهي توضح أن الله عزّ وجلّ ليس مطّلعا فقط على الغيب والشهادة، بل إن له ملائكة حفظة يتعاقبون على هذا المختبئ في تلافيف الظلام والسارب في وضح النهار، من قبل الله عزّ وجلّ وبأمره، يحيطون به رعاية وحفظا ويحصون أفعاله وأقواله كتابة وتسجيلا. فهذا هو معنى قوله عزّ وجلّ: لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ. فالضمير في له عائد إلى الله عزّ وجلّ، والمعقبات صفة للملائكة المحذوفة وهو جمع معقبة، ومعقبة جمع معقب، فالكلمة جمع الجمع، والضمير في يديه عائد إلى الإنسان المفهوم من الآية السابقة، والجار والمجرور في: من أمر الله متعلق بيحفظونه على أن من للسببية، أي يحفظونه بسبب أمر الله لهم بذلك.
ومع سياق الحديث عن رعاية الله للإنسان وحفظه له في غدوّه ورواحه، تذكر الآية قاعدة جرت عليها سنّة الله في الكون: إن الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.
أي إن الله عزّ وجلّ لا يغيّر ما تلبّس بقوم من النعمة وما قد حفّ بهم من الرعاية التي وصفها، حتى يغيروا ما قد استقر في نفوسهم من فطرة الاستقامة على الحق، التي فطر الله الناس عليها، فيجنحوا إلى نقائضها من الآثام والشرور. وإذا تأملت في صياغة هذه الجملة ودقة سبكها ووجيز ألفاظها مع شمول المعنى واتساعه رأيت من ذلك عجبا لا ينتهي إلا عند ما تتذكر أنه بيان الله وكلامه المعجز.