الحياة الدنيا، والإماتة السابقة على الحشر يوم القيامة. والحياتان هما الحياة التي عاشوها في الدنيا والتي بعثهم الله إليها يوم الحشر. وعبّر عن العدم الأول بالإماتة مع أنه عدم أصلي غير مسبوق بوجود ليصوّر لك أن ذلك إنما هو أيضا بجعل الله وتقديره، كما تقول: سبحان من صغر البعوض وعظم الفيل، مع أن البعوض صغير من أصله.
ويقولون بعد ذلك: فاعترفنا بذنوبنا، ليمسحوا بهذه الضراعة جحودهم السابق، وليجعلوا من ذلك تمهيدا وتوطئة لرجائهم الذي يتقدمون به: فهل إلى خروج من سبيل؟. وأنت إذا تأملت في هذه الجملة وجدتها تصوّر أبلغ حالات الضراعة والاسترحام والذل: فقد عبّروا عن رجائهم بهل وهي- كما تعلم- استفهام عرض ورجاء، ثم عبّر عن الرجوع إلى دار الدنيا بمطلق الخروج من هذا الموقف، ونكّر الكلمة بيانا لتعلقهم الشديد بأي خروج من هذه الورطة، ونكر السبيل وزاد من تنكيرها وتعميمها بتسليط «من» عليها، ليصبح المعنى هل إلى أيّ خروج من هذا المأزق سبيل ما من الممكن تصوره؟ .. وهو كما ترى كلام من غلب عليه القنوط واليأس وأسقط في يديه، فراح يتعلق بحبال واهية من الرجاء والضراعة والذل.
* والآية بعدها معرضة- كما ترى- عن الجواب على استرحامهم هذا، تنبيها إلى استحالة ما يؤملونه وإلى وضوح ذلك بحيث لا حاجة إلى التحدّث فيه والإجابة عنه، ولكنها تكشف لهم عن علة هذه الاستحالة وسببها، إذ تقول: ذلكم الذي انتهيتم إليه من العذاب الذي لا مردّ له، إنما هو بسبب أنكم كنتم إذا دعيتم إلى الله في دار الدنيا بادرتم إلى الجحود والكفر، وإن لاحت لكم دعوة إلى باطل أو شرك سارعتم فيه وآمنتم به.
وتأمل في دقة التعبير القرآني عن هذا المعنى: ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ، وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا عبّر عن حال الدعوة إلى الله بإذا الدّالة على التحقق والتكرار، وعن حال ظهور الشرك أمامهم بأن الدّالة على المصادفة في الوقوع وعدم التكرار، ونصّ على الدعوة في الحالة الأولى وأهمل ذكرها في الحالة الثانية، ليصوّر في الذهن مدى ما انتهى إليه حالهم من السوء، فهم لا