فأما: رفيع الدرجات، فهي بمعنى مرتفع الصفات فلا يلحق به فيها غيره ولعلّ هذا خير من القول بأن رفيع بمعنى رافع وأن راجع وأن المعنى: رافع درجات من شاء من عباده، ذلك أن الأشبه برفيع أن تكون صفة مشبهة لا اسم فاعل.
وأما: ذو العرش، فمعناه مالكه وخالقه. وإنما أفرده بالذكر لأنه من أعظم مخلوقاته وأجلّها، والعرش من الغيب الذي أخبرنا الله عنه ولم يطلعنا عليه، فهو مما يجب الإيمان به غيبا. والصفتان خبران لمبتدإ محذوف تقديره:
هو، حذف اكتفاء بما يدل عليه وتوجيها للفكر كله إلى التأمل في هذه الصفات.
ويُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ ... خبر آخر، فهي صفة ثالثة، أي أنه يرسل الوحي الذي هو بمثابة الروح لحياة الإنسان، إذ إن مضمون الوحي الإلهي إنما هو روح للحياة الحقيقية التي يحتاجها الإنسان أشد من حاجته إلى الغذاء. وتأمل في التعبير ب يُلْقِي وانظر إلى الكلمة كيف تصور انطلاق الوحي من الله عزّ وجلّ إلى من شاء من عباده في إلقاء سريع، فلا يمكن أن يلحقه أي تبديل أو تحريف، وهو ما يؤكد مضمون قوله: من أمره، أي يلقي الروح ناشئا ومنطلقا من أمره، فمن للابتداء، والجار والمجرور متعلق
بمحذوف منصوب على الحالية.
وفي قوله: عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ دلالة على أن النبوّة لا تأتي بالكسب والترقي في مدارج الصلاح والتقوى، وإنما هي اختيار إلهي محض.
أما الوظيفة التي يتضمنها الوحي ويكلف بها الرسول فهي أن ينذر يوم التلاق، أي يوم القيامة.
ولم يذكر المفعول الأول لينذر، ليكون الإنذار عامّا للناس كلهم في مختلف الأعصار والأمصار، ولم تزد الآية على أن أطلقت على يوم القيامة اسم: يوم التلاق، دون أن تعين المقصود بالتلاقي الذي يكون فيه، ليشمل كل تلاق يكون في ذلك اليوم ... إذ فيه تتلاقى سلسلة أجيال البشر كلها على صعيد واحد بعد أن كانت مفرقة على عمر الدنيا كلها، وفيه يتلاقى الناس بالملائكة وأهل السموات بأهل الأرض، وفيه يتلاقى الناس مع ما قدّموه من أعمال ...