فقد هدأت الزمجرة، وسكنت العاصفة وولدت الدنيا كما كانت من جديد.
وتعال فلنتأمل في اللوحة الإلهية التي رسمت هذا المشهد: وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي؛ وَغِيضَ الْماءُ، وَقُضِيَ الْأَمْرُ، وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ، وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ.
إن هذه الجمل القرآنية العجيبة، تصور لك هذا الكون الهائل الفسيح من سماء وأرض وبحار وجبال في صورة أنموذج من القطع المركبة إلى بعضها مما يوضع بين يدي الأطفال، جاءت يد إنسان فنثرتها وفصلت أجزاءها، ثم ما هو إلا أن عاد فركّبها إلى بعضها كما كانت في أسرع وقت.
وهي تصوّر لك معنى الإرادة الإلهية وسلطانها الرهيب المنبسط على الكون كله بل القابض عليه كله، وتتصرف به كما تشاء ليس في حسابها أي معنى لكبير وصغير أو لعظيم وحقير. ألا ترى كيف علّقت الآية رجوع كل شيء إلى ما كان عليه بعد أن التقت مياه السماء والأرض على طوفان هائل مخيف- على كلمة صغيرة هي: وَقِيلَ لتصوّر لك سهولة الأمر وأنه لا يحتاج إلا لهذا الأمر الإلهي الذي به قيام الدنيا وزوالها.
ثم انظر إلى دقائق التعبير المصوّر:
وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ أرأيت أنه لم يقل: جففي ماءك، مثلا، مع أنه هو التعبير المتفق مع طبيعة الأرض وشأنها، وإنما قال: ابلعي ماءك، ليصوّر لك بأن الأرض لما
اتجهت إليها إرادة العزيز الخبير انقلبت مسامها وشقوقها إلى أفواه فاغرة تبتلع بها المياه ابتلاعا! فهي لم تنفّذ الأمر بالطبيعة المألوفة لها وإنما بالانقياد لأمر خالقها جلّ جلاله.
وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وأنت إذا تأملت في كلمة اقلعي- وهي بمعنى كفّي وأمسكي- تصورت كم كانت منفتحة على مياه تنصبّ إلى الأرض وحسبك أن تتأمل الآية الأخرى في وصف ذلك: وفتحنا أبواب السماء بماء منهمر، لتتصور هول تلك المياه المنهمرة من أبواب السماء.
ثم انظر كيف أسند الخطاب إلى كلّ من السماء والأرض مع أنهما مخلوقان