وهذا المعنى هو ما عبّر عنه القرآن بالتثبيت في قوله تعالى: كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ.
ثانيا- كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أميّا لا يقرأ ولا يكتب، فليس لديه من الوسائل الكسبية ما يضبط ويحفظ به كل ما ينزل عليه إلا وسيلة التكرار والحفظ. فكان لا بدّ من نزول الآيات بتدرّج وخلال فترات متقطعة من الزمن حتى يكون السبيل إلى حفظه ووعيه أيسر. وعلى الرغم من ذلك فقد كان من عادته عليه الصلاة والسلام إذا نزلت عليه الآية من القرآن أن يأخذ في تكرارها ويستعجل في محاولة حفظها ويظل يحرّك لسانه بها خشية أن تتفلت من حفظه إلى أن نزل عليه قوله تعالى: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ، إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ.
ثالثا- احتوى القرآن على متن الفقه الإسلامي كله، أي على عامة أحكامه في الجملة سواء ما يتعلق بالعبادات أو المعاملات المدنية أو الأحوال الشخصية أو العقوبات أو النظم الدستورية والمالية.
وكان العرب قبل الإسلام متفلتين عن كل قيد، لا يخضعون لقانون ولا يرتبطون بأي تنظيم، فكان من العسير عليهم أن ينتقلوا من تلك الحالة في طفرة مفاجأة، إلى التقيد بعامّة أحكام الإسلام ونظمه وقوانينه.
فمن أجل ذلك أخذهم القرآن في ذلك بالوسيلة التربوية التي لا بدّ منها، وهي وسيلة التدرّج في نقلهم من حياة الفوضى والتفلت، إلى حياة النظام والتقيد بالمعايير التي لا بدّ منها في المجتمع الصالح. فنزلت أولا الآيات المتعلقة بالعقيدة ودلائلها، حتى إذا آمن الناس وثابوا إلى عقيدة التوحيد، نزلت آيات الحلال والحرام وعامة الأحكام في مهل وتدرّج.
وفي ذلك يروي الإمام البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت:
إنما نزل أول ما نزل من القرآن سور من المفصل، فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء: لا تشربوا الخمر لقالوا: لا ندع الخمر أبدا، ولو نزل: لا تزنوا، لقالوا: لا لا ندع الزنا.