باب اتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم
بدأ المؤلف رحمه الله المقدمة بهذه الترجمة: [باب اتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم].
قوله: (ما أمرتكم به فخذوه، وما نهيتكم عنه فاجتنبوه) أصل هذا الحديث في مسلم: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه).
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن الصباح قال: أنبأنا جرير عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بسؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فخذوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فانتهوا)].
وهذا كالحديث السابق، وفيه التحذير من السؤال إذا لم يكن الإنسان محتاجاً إليه، فإن كثرة الأسئلة التي يكون السائل فيها متعنتاً تضره؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من قبلكم بسؤالهم واختلافهم على أنبيائهم)، والمراد كثرة السؤال الذي يقصد منه صاحبه التعنت أو الرياء والسمعة وإظهار نفسه أو الإعنات وإتعاب المسئول وإيقاعه في العنت والعجز، أو السؤال عن الأسئلة التي لم تقع، فهذا منهي عنه.
أما إذا كان السؤال المقصود منه الاستفادة والاسترشاد فإنه مطلوب، قال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43]، وبين النبي صلى الله عليه وسلم أن هلاك السابقين إنما هو بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه).
وفيه دليل على أن النواهي يجب أن يجتنبها الإنسان، أما الأوامر فإنه يفعل منها ما يستطيع، وما عجز عنه فإنه يعفى عنه، فقد ثبت في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ عمران بن حصين: (صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب)، زاد النسائي: (فإن لم تستطع فمستلقياً)، وقد قال ربنا سبحانه وتعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16]، فالإنسان يفعل الأوامر ويتقي ربه بقدر الاستطاعة، أما النواهي فإنه يجتنبها.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو معاوية ووكيع عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله)].
وهذا مما انفرد به ابن ماجه رحمه الله، لكن معناه صحيح، وقد دل عليه القرآن الكريم، قال الله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} [النساء:80]، وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59]، وقال: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [المائدة:92]، وقال: {وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [النور:56]، فمن أطاع الرسول فقد أطاع الله؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم هو المعصوم فلا يأمر بخلاف طاعة الله، بخلاف الأمراء وغيرهم فإنهم ليسوا معصومين؛ ولهذا لا يطاعون إلا في طاعة الله ورسوله وفي الأمور المباحة، أما المعاصي فلا يطاع فيها أحد؛ ولهذا قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء:59] ولم يقل: وأطيعوا أولي الأمر، فكرر الفعل في طاعة الرسول ولم يكرره في ولاة الأمور؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم معصوم، فلا يأمر إلا بما هو من طاعة لله، بخلاف الأمراء وغيرهم فإنهم قد يأمرون بمعصية فلا يطاعون فيها.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير حدثنا زكريا بن عدي عن ابن المبارك عن محمد بن سوقة عن أبي جعفر قال: كان ابن عمر رضي الله عنهما إذا سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً لم يعده ولم يقصر دونه].
وهذا فيه فضل ابن عمر رضي الله عنهما وتعظيمه للسنة، فإذا بلغه حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم (لم يعده) يعني: لم يتجاوزه، (ولم يقصر دونه) بل يؤدي الأمر كما أمر، ويقف عند الحد، فلا يتجاوزها ولا يقصر عنها.
وهذا من عناية ابن عمر رضي الله عنهما؛ فقد كان شديد التعظيم لسنة الرسول عليه الصلاة والسلام، وشديد الاتباع للنبي صلى الله عليه وسلم، حتى إنه رضي الله عنه كان يتتبع آثار النبي صلى الله عليه وسلم في الصحراء، وفي المواقف التي وقف فيها النبي صلى الله عليه وسلم يقف فيها، والمكان الذي نام فيه فينام فيه، والمكان الذي يبول فيه فيبول فيه، وهذا من اجتهاده.
والصواب: أنه لا يشرع تتبع آثار النبي صلى الله عليه وسلم في نومه وبوله؛ ولهذا لم يفعله كبار الصحابة رضوان الله عليهم، وإنما هذا من اجتهاده رضي الله عنه كما يدل له سياق الحديث: كان إذا بلغ ابن عمر رضي الله عنهما حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم أو أمراً عن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعده ولم يقصر عنه، (لم يعده) يعني: لم يتجاوزه، (ولم يقصر عنه) يعني: لا يغلو فيزيد، ولا يفرط فيقصر، بل يفعل كما أمر.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا هشام بن عمار الدمشقي حدثنا محمد بن عيسى بن سميع حدثنا إبراهيم بن سليمان الأفطس عن الوليد بن عبد الرحمن الجرشي عن جبير بن نفير عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: (خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نذكر الفقر ونتخوفه، فقال: آلفقر تخافون؟ والذي نفسي بيده! لتصبن عليكم الدنيا صباً حتى لا يزيغ قلب أحدكم إزاغة إلا هيه، وايم الله! لقد تركتكم على مثل البيضاء ليلها ونهارها سواء)].
هذا فيه التحذير من الدنيا؛ لأن النبي خرج عليهم وهم يتذاكرون الفقر، فقال: (آلفقر تخافون؟) هذا استفهام يعني: (أالفقر تخافون؟) سهلت الهمزة فصارت مداً، وقوله فلا يزيغ قلب أحدكم إلا هيه) يعني: ما يكون زيغه إلا بسبب الدنيا.
يقول: (تركتكم على البيضاء) يعني: على محجة بيضاء (ليلها كنهارها).
وهذا الحديث أصله في الصحيح، قال صلى الله عليه وسلم: (والله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تبسط عليكم الدنيا فتنافسوها كما تنافسها من قبلكم؛ فتهلككم كما أهلكتهم)، فيكون معنى الحديث كمعنى الحديث الذي في الصحيح.
قال ابن حجر رحمه الله تعالى: الوليد بن عبد الرحمن الجرشي بضم الجيم وبالشين المعجمة.
الجرشي هي المعروفة الآن، بالجرشي وهي البلدة المعروفة في رابغ.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال أبو الدرداء: صدق والله رسول الله صلى الله عليه وسلم تركنا والله على مثل البيضاء ليلها ونهارها سواء].
يعني: تركنا النبي صلى الله عليه وسلم على ملة وشريعة بيضاء واضحة، لا لبس فيها ولا إشكال.