ذكر بعض الأحاديث التي أوردها الترمذي في فضل أهل الحديث
الحديث الأول: روى الترمذي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: (أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم علي صلاة).
وقال: هذا حديث حسن غريب.
قال القاري في المرقاة في شرح المشكاة: ورواه ابن حبان في صحيحه، والأحاديث في هذا الباب كثيرة.
قال ابن حبان عقب هذا الحديث: في الخبر بيان صحيح على أن أولى الناس برسول صلى الله عليه وسلم في القيامة يكون أصحاب الحديث، إذ ليس في هذه الأمة قوم أكثر صلاة عليه منهم.
وقال غيره: لأنهم يصلون عليه قولاً وفعلاً.
انتهى.
وقال الخطيب في كتابه شرف أصحاب الحديث: قال لنا أبو نعيم: هذه منقبة شريفة يختص بها رواة الآثار ونقلتها؛ لأنه لا يعرف لعصابة من العلماء من الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر مما يعرف لهذه العصابة نسخاً وذكراً.
وقال أبو اليمن بن عساكر: ليهن أهل الحديث هذه البشرى، فقد أتم الله نعمه عليهم بهذه الفضيلة الكبرى، فإنهم أولى الناس بنبيهم، وأقربهم إن شاء الله تعالى وسيلة يوم القيامة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنهم يخلدون ذكره في طروسهم، ويجددون الصلاة والتسليم عليه].
قوله: (ليهن) أي: هنيئاً لهم.
وقوله: (طروسهم) يعني: كتبهم الأوراق، وطرس: ما يكتب فيه، يعني: يكتبونه صلى الله عليه وسلم في كتاباتهم.
قوله: [ويجددون الصلاة والتسليم عليه في معظم الأوقات، في مجالس مذاكرتهم ودروسهم، فهم إن شاء الله تعالى الفرقة الناجية، جعلنا الله منهم وحشرنا في زمرتهم.
انتهى].
الحديث الثاني: روى الترمذي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت رسول صلى الله عليه وسلم يقول: (نضر الله امرأً سمع منا شيئاً فبلغه كما سمعه، فرب مبلغ أوعى له من سامع).
وقال: هذا حديث حسن صحيح.
وفي الباب أحاديث أخرى.
قال القاري: خص مبلغ الحديث كما سمعه بهذا الدعاء؛ لأنه سعى في نضارة العلم وتجديد السنة، فجازاه بالدعاء بما يناسب حاله، وهذا يدل على شرف الحديث وفضله ودرجة طلابه، حيث خصهم النبي صلى الله عليه وسلم بدعاء لم يشرك فيه أحداً من الأمة، ولو لم يكن في طلب الحديث وحفظه وتبليغه فائدة سوى أن يستفيد بركة هذه الدعوة المباركة لكفى ذلك فائدة وغنماً، وجل في الدارين حظاً وقسماً.
انتهى.
وقال القاضي أبو بكر بن العربي: قال علماء الحديث: ما من أحد يطلب الحديث إلا كان على وجهه نضرة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها) الحديث.
قال: وهذا دعاء من النبي صلى الله عليه وسلم لحملة علمه، ولا بد بفضل الله تعالى من نيل بركته.
وإلى هذه النضرة أشار أبو العباس الزفي بقوله: أهل الحديث عصابة الحق فازوا بدعوة سيد الخلق.
فوجوههم زهر منضرة لألاؤها كتألق البرق يا ليتني معهم فيدركني ما أدركوه بها من السبق الحديث الثالث: روى الطبراني في الأوسط عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم ارحم خلفائي.
قلنا: يا رسول الله! ومن خلفاؤك؟ قال: الذين يروون أحاديثي ويعلمونها الناس).
قال القسطلاني في مقدمة إرشاد الساري بعد ذكر هذا الحديث: ولا ريب أن أداء السنن إلى المسلمين نصيحة لهم من وظائف الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فمن قام بذلك كان خليفة لمن يبلغ عنه، وكما لا يليق بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام أن يهملوا أعاديهم ولا ينصحوهم، كذلك لا يحسن لطالب الحديث وناقل السنن أن يمنحها صديقه ويمنعها عدوه، فعلى العالم بالسنة أن يجعل أكبر همه نشر الحديث، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتبليغ عنه حيث قال: (بلغوا عني ولو آية).
الحديث رواه البخاري.
قال المظهري: أي: بلغوا عني أحاديثي ولو كانت قليلة.
قال البيضاوي: قال: ولو آية، ولم يقل ولو حديثاً، لأن الأمر بتبليغ الحديث يفهم منه بطريق الأولوية، فإن الآيات مع انتشارها وكثرة حملتها تكفل الله تعالى بحفظها وصونها عن الضياع والتحريف.
انتهى.
وقال إمام الأئمة مالك رحمه الله تعالى: بلغني أن العلماء يسألون يوم القيامة عن تبليغهم العلم كما تسأله الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
وقال سفيان الثوري: لا أعلم علماً أفضل من علم الحديث لمن أراد به وجه الله تعالى، إن الناس يحتاجون إليه حتى في طعامهم وشرابهم، فهو أفضل من التطوع بالصلاة والصيام؛ لأنه فرض كفاية.
انتهى].
أي: أن الناس يحتاجونه في طعامهم وشرابهم، كيف يأكل؟ فيأكل بيده اليمنى، ويقول: باسم الله، ويأكل مما يليه، والشرب يشرب قائماً أو قاعداً، ويشرب بنفس واحد: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يشرب بنفس) وإذا شرب من القدح يشرب ثلاث مرات، وهكذا نحتاج إليه في كل شيء، فهو فرض كفاية، بخلاف نوافل الصوم والصلاة، فهذه نفعها قاصر، ولا أفضل من علم الحديث لمن أراد به وجه الله؛ لأنه يدخل على الناس في كل شيء: في طعامهم وشرابهم، وفي نومهم، ومضاجعهم، ومعاملاتهم مع ربهم، ومع أسرهم، ومع الناس أجمعين.
الحديث الرابع: روى البيهقي في المدخل عن إبراهيم بن عبد الرحمن العذري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين).
كذا في المشكاة.
قال القسطلاني بعد ذكره من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه: وهذا الحديث رواه من الصحابة علي وابن عمر وابن عمرو وابن مسعود وابن عباس وجابر بن سمرة ومعاذ، وأبو هريرة رضي الله عنهم.
وأورده ابن عدي من طرق كثيرة كلها ضعيفة كما صرح به الدارقطني وأبو نعيم وابن عبد البر، لكن يمكن أن يتقوى بتعدد طرقه ويكون حسناً، كما جزم به ابن كيكلدي العلائي، وفيه تخصيص حملة السنة بهذه المنقبة العلية، وتعظيم لهذه الأمة المحمدية، وبيان لجلالة قدر المحدثين وعلو مرتبتهم في العالمين؛ لأنهم يحمون مشارع الشريعة، ومتون الروايات من تحريف الغالين، وتأويل الجاهلين بنقل النصوص المحكمة يرد المتشابه إليها.
وقال النووي في أول تهذيبه: هذا إخبار منه صلى الله عليه وسلم لصيانة هذا العلم وحفظه وعدالة ناقليه، وأن الله تعالى يوفق له في كل عصر خلفاء من العدول يحملونه وينفون عنه التحريف؛ فلا يضيع، وهذا تصريح بعدالة حامليه في كل عصر، وهكذا وقع ولله الحمد، وهو من أعلام النبوة، ولا يضر كون بعض الفساق يعرف شيئاً من علم الحديث؛ فإن الحديث إنما هو إخبار بأن العدول يحملونه، لا أن غيرهم لا يعرف شيئاً منه.
انتهى.
على أنه قد يقال: ما يعرفه الفساق من العلم ليس بعلم حقيقة؛ لعدم عملهم كما أشار إليه المولى سعد الدين التفتازاني في تقرير قول التلخيص: وقد ينزل العالم منزلة الجاهل.
وصرح به الإمام الشافعي في قوله: ولا العلم إلا مع التقى ولا العقل إلا مع الأدب ولعمري إن هذا الشأن من أقوى أركان الدين، وأوثق عرى اليقين، ولا يرغب في نشره إلا صادق تقي، ولا يزهده إلا كل منافق شقي، قال ابن القطان: ليس في الدنيا مبتدع إلا وهو يبغض أهل الحديث.
وقال الحاكم: لولا كثرة طائفة المحدثين على حفظ الأسانيد لدرس منار الإسلام، ولتمكن أهل الإلحاد والمبتدعة من وضع الأحاديث وقلب الأسانيد.
انتهى.
الحديث الخامس: أخرج الترمذي في باب ما جاء في أهل الشام من أبواب الفتن.
عن معاوية بن قرة عن أبيه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا فسد أهل الشام فلا خير فيكم، لا تزال طائفة من أمتي منصورين لا يضرهم من خذلهم حتى تقوم الساعة).
قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
وقال: قال محمد بن إسماعيل يعني: البخاري: قال علي بن المديني: هم أصحاب الحديث.
انتهى.
قال الإمام البخاري في صحيحه: باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق) وهم أهل العلم.
قال الحافظ في الفتح: قوله: وهم أهل العلم.
هو من كلام المصنف.
وأخرج الترمذي حديث الباب ثم قال: سمعت محمد بن إسماعيل يقول: سمعت علي بن المديني يقول: هم أصحاب الحديث.
قال: وذكر -أي البخاري - في كتاب خلق أفعال العباد عقب حديث أبي سعيد رضي الله عنه في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة:143] هم الطائفة المذكورة في حديث: (لا تزال طائفة من أمتي) ثم ساقه.
قال: وجاء نحوه عن أبي هريرة ومعاوية وجابر وسلمة بن نفيل وقرة بن إياس رضي الله عنهم.
انتهى.
وأخرج الحاكم في علوم الحديث بسند صحيح عن أحمد: إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري من هم؟ ومن طريق يزيد بن هارون مثله.
انتهى ما في الفتح.
قلت: ولأهل العلم في فضيلة الحديث وأهله أقوال كثيرة منثورة ومنظومة].
والخلاصة: أن المؤلف ذكر الأحاديث الخمسة في فضل أهل الحديث: فالحديث الأول: أنهم أولى الناس برسول