وظني: أنهم كانوا يعتقدون بمخترعاتِهِم، وتسويلاتِ شياطينهم، وكان عندهم من أشياءِ النبوة أيضًا، إلا أنهم لم يكونوا يتبعون نبيًا خاصًا، وقال بعضهم: إن المراد من {ومَنْ آمَنَ بِاللَّهِ}
= وتعلَمُ نحوه في باب أخذ الجزية من أهل الكتاب ورُوي في ذلك اختلافًا بين التابعين. وقد بسط ابن النديم في كتابه "الفهرست" في أحوالهم بما لاَ مزيد عليه، فذكر في الفن الأول من المقالة التاسعة معتقداتهم، وصلواتهم، وصيامهم، وذبائحهم، وسائر أحكام دينهم مفصلًا، ثم ذكر حكاية أخرى في أمرهم فقال: قال أبو يوسف أيشع القطيعي النصراني في كتابه في الكشف عن مذاهب الحرانيين المعروفين في عصرنا بالصابئة: إن المأمونَ اجتاز في آخر أيامِهِ بديار مصر، يريد بلاد الروم للغزو، فتلقاه الناس، يدعون له وفيهم جماعة من الحرَّانيين وكان زيهم إذ ذاك لبس الأقبية، وشعورهم طويلة بوَفرَات كوَفْرة جدِ سنان بن ثابت، فأنكر المأمون زيهم وقال لهم: من أنتم من الذمة؟ فقالوا: نحن الحرنانية، فقال: أنصارى أنتم؟ قالوا: لا، قال: فيهود أنتم؟ قالوا: لا، قال: فمجوس أنتم؟ قالوا لا، قال لهم أفلكم كتاب أم نبيٌ، فمجمجوا في القول، فقال لهم: فأنتم إذًا الزنادقة عبدة الأوثان، وأصحاب الرؤوس في أيام الرشيد والدي. وأنتم حلالٌ دماؤُكم، لا ذمة لكم فقالوا: نحن نؤدي الجزية ...
فاختاروا الآن أحد أمرين: إما أن تنتحلوا دينَ الإسلام، أو دينًا من الأديان التي ذكرها الله في كتابه، وإلّا قتلتكم عن آخركم، فإني قد أنظرتكم إلى أن أرجعَ من سفرتي هذه، فإن أنتم دخلتم في الإِسلام أو في دين من هذه الأديان التي ذكرها الله في كتابه، وإلّا أمرت بقتلكم واستئصال شأفتكم -ورحلَ المأمونُ يريدُ بلد الروم، فغيروا زِيهم، وحلقوا شعورَهم وتركوا لبس الأقبية، وتنصر كثيرٌ منهم، ولبسوا زنانير، وأسلم منهم طائفة، وبقي منهم شرذِمة بحالهم، وجعلوا يحتالون، ويضطربون، حتى انتدب لهم شيخ من أهلِ حران فقيه، فقال لهم: قد وجدتُ لكم شيئًا تنجون به وتسلمُون من القتل فحملوا إليه مالا عظيمًا من بيت مالهم ...
فقال لهم: إذا رجع المأمون من سفره فقولوا له: نحن الصابئون، فهذا اسم دين قد ذكره الله جل اسمه في القرآن، فانتحِلُوه فأنتم تنجون به. وقضى أن المأمون توفي في سفرته تلك بالبذندون ... وانتحلوا هذا الاسم منذ ذلك الوقت، لأنه لم يكن بحران ونواحيها قومٌ يسمَون بالصابئة، فلما اتصل بهم وفاة المأمون ارتد أكثر من كان تنصر منهم، ورجع إلى الحرنانية،، وطولوا شعورهم حسب ما كانوا عليه قبل مرور المأمون بهم، على أنهم صابئون، ومنعهم المسلمون من لُبْس الأقبية، لأنه من لُبْس أصحاب السلطان، ومن أسلَم منهم لا يمكنه الارتداد خوفًا من أن يقتل، فأقاموا متسترين بالإسلام، فكانوا يتزوجون بنساء حرانيات، ويجعلون الولد، الذكرَ مسلمًا، والأنثى حرانية، وهذه كانت سبيل كل أهل ترعوز، وسلمسين، القريتين المشهورتين العظيمتين بالقرب من حران إلى منذ نحو عشرين سنة.
كان الشيخان المعروفان بأبي زرارة، وأبي عروبة، علماء شيخ حران بالفقه والأمر بالمعروف، وسائر مشايخ أهل حران وفقهائهم احتسبوا عليهم ومنعوهم من أن يتزوجوا بنساء حرانيات، أعني صابئات، وقالوا: لا يحل للمسلمين نكاحهم، لأنهم ليسوا من أهل الكتاب هكذا في النسخة، وبحران أيضًا منازل كثيرة إلى هذه الغاية بعض أهلها حرنانية ممن كان أقام على دينه في أيام المأمون، وبعضهم مسلمون، وبعضهم نصارى ممن كان دخل في الإسلام وتنصَّر في ذلك الوقت إلى هذه الغاية، مثل قوم يقال له: بنو أبلوط، وبنو قيطران، وغيرهم مشهورين بحران، اهـ. وقد فصل أحوالهم وذكر في خاتمتها- وقد كان هارون بن إبراهيم بن حمَّاد بن إسحاق لما كان يلي بحران وأعمالها القضاء، وقع إليه كتاب سرياني فيه أمر مذاهبهم وصلواتهم، فأحضر رجلًا فصيحًا بالسريانية والعربية ونقله له بحضرته من غير زيادة ولا نقصان، والكتاب موجود كثير بيد الناس، واحتسب هارون بن إبراهيم حملَه إلى أبي الحسن علي بن عيسى وفي ذلك الكتاب مشروح، فلينظر فيه فإنه يغفي عن كثير من الكتب المعمولة في معناه. انتهى.