إلى بيت المقدس، وإذن لا معنى لتفسيره بِالصلاة عند البيت، فإنه لم يكن لهم إشكال في تلك الصلوات، مع أنه روى النسائي وغيره في الحديث المذكور فأنزل الله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَنَكُمْ}: صلاتَكم إلى بيت المقدس، وعلى هذا فقول المصنف رحمه الله تعالى: «عند البيت» مشكلٌ، مع أنه ثابتٌ في جميع النسخ.
قال بعض العلماء: إن المرادَ من البيت هو بيتُ المقدس، و «عند» بمعنى إلى، فصار الحاصل: يعني إلى بيت المقدس.
قلتُ: والمعروف من البيتِ عند الإطلاقِ بيتُ الله، دون بيتِ المقدس. وأجاب عنه النووي: أن المراد منه الصلوات بمكة، وهو أيضًا كما ترى، فإن الترددَ والشبهة إنما كان في الصلوات التي صُليت بالمدينة سبعةَ عَشَرَ شهرًا إلى بيت المقدس. وقال الحافظ رحمه الله: مقاصد البخاري في هذه الأمور دقيقة وبيان ذلك: أن العلماء اختلفوا في الجهة التي كان النبي صلى الله عليه وسلّم يتوجه إليها للصلاة وهو بمكة، فقال ابن عباس رضي الله تعالى عنه وغيره: كان يصلي إلى بيت المقدس، لكنه لم يكن يَسْتدِبر الكعبة، بل يجعلها بينه وبين بيت المقدس. وأطلق آخرون: أنه كان يصلي إلى بيت المقدس. وقال آخرون: كان يصلي إلى الكعبة، فلما تحول إلى المدينة استقبلَ بيت المقدس، وهذا ضعيف، يلزمُ منه دعوى النَّسخ مرتين، والأول أصح، وراجع التفصيل من «شرح المواهب» للزُرْقَاني.
وكأن البخاري أراد الإشارةَ إلى الجزم بالأصح، من أن صلاتهم عند البيت كانت إلى بيت المقدس، واقتصر على قوله: «عند البيت»، ولم يقلْ إلى بيت المقدس، اكتفاءً بالأولوية، لأن صلاتهم إلى غير جهة البيت، وهم عند البيت، إذا كانت لا تضيع، فأحرى أن لا تضيعَ إذا غابوا عنه، فتديرُ الكلامِ هكذا يعني: صلاتكم التي صليتُمُوها عند البيت إلى البيت المقدس. قلت: إن «عند» ههنا للزمان، والمراد منَ البيت هو بيت الله. والمعنى: أن صلاتَكم إلى بيت المقدس لم تضع عند كون البيت قبلة، وحينئذٍ «عند» زمانية لا مكانية.
بحثٌ أنيقٌ في استقبالِ الكعبة واستقبالِ بيت المقدس، وهل كانا قِبْلتين، أم كانت الكعبة قِبلة لجميع الملل، وهل النسخ وقع مرة أو مرتين؟
بقى الكلام في أن استقبالَ بيت المقدس كان من الاجتهاد، أم من الوحي، فحقق ابن القيم رحمه الله تعالى في «هداية الحيارى» أن مكةَ شرفها الله وبيتَ المقدس كانتا قبلتين من قبل، وكان إبراهيم عليه الصلاة والسلام عيَّنهما، فالقبلتان إبراهيميتان. وذهب جماعة [1] إلى أن [1] وفي "حاشية جامع البيان" عن "بدائع الفوائد" -واليهود كانوا ينصبون التابوت ويصلون إليه من حيث خرجوا، فإذا قدموا نصبوه على الصخرة وصلوا إليه، فلما رفع صلوا إلى موضعه وهو الصخرة- كذا في "مشكلات القرآن" للشيخ رحمه الله، ص 40.