أيضًا دِيانة يُفتي به المُفتي ولا يحكمُ به القاضي. ففهمتُ منه أن القضاءَ أمرٌ غير الفتوى.
ثم لم أزل أفتشُ عن هذا الفرق في عبارات الفقهاء حتى وجدتُ في أصول العِمَادي لابن أبي صاحب «الهداية» مقدمةً مُمهدةً لذلك وقد بسطه الطحاوي في «مشكل الآثار» أيضًا وهذا الفرقُ معتبرٌ في المذاهب الأربعة. ففي قصة امرأة أبي سفيان: «خذي ما يكفيك وولدك». وبحث عليه النووي هل كان هذا قضاءً أو فتوى؟ فإن كان الثاني فإنه يصحُ أن يفتَى به كل عالمٍ، وإن كان الأولُ فإنه لا يجوز إلا للقاضي. وعند الطحاوي ما يدلُ على أن هذا الفرق كان دائرًا في السلف أيضًا: حدثنا سليمان بن شعيب، عن أبيه، عن أبي يوسف، عن عطاء عن السائب قال: سألت شُرَيحًا. فقال: إنما أقضي ولستُ أفتي. وهذا صريحٌ في أن القضاءَ غيرُ الإفتاء. وأن القاضي لا يجوزُ له أن يحكم بالدِّيانة ما دام قاضيًا وجالسًا في مجلس القضاء، فإذا تحوَّل عنه والتحقَ بسائرِ الناس، فإنه مفتىٍ كسائرهم ويسوَّغُ له ما يسوغ لهم.
فالحاصل: أن الزوجَ إن استقينَ بخبرِ المرضعةِ جَازَ له أن يقبلَ شهادتها، ويعملُ بالديانة ويفارِقَها، فإن بلغَ الأمرُ إلى القضاء لا يجوز له أن يحكم بتلك الشهادة. ومن ههنا تبيَّن أن مراد ابن الهُمَام رحمه الله تعالى من التنزه والتورع: الكراهةُ تنزيهًا دون الاحتياط فقط.
27 - باب الرِّحْلَةِ فِى الْمَسْأَلَةِ النَّازِلَةِ وَتَعْلِيمِ أَهْلِهِ
88 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَبُو الْحَسَنِ قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ أَبِى حُسَيْنٍ قَالَ حَدَّثَنِى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِى مُلَيْكَةَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ أَنَّهُ تَزَوَّجَ ابْنَةً لأَبِى إِهَابِ بْنِ عَزِيزٍ، فَأَتَتْهُ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ إِنِّى قَدْ أَرْضَعْتُ عُقْبَةَ وَالَّتِى تَزَوَّجَ بِهَا. فَقَالَ لَهَا عُقْبَةُ مَا أَعْلَمُ أَنَّكِ أَرْضَعْتِنِى وَلاَ أَخْبَرْتِنِى. فَرَكِبَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِالْمَدِينَةِ فَسَأَلَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «كَيْفَ وَقَدْ قِيلَ». فَفَارَقَهَا عُقْبَةُ، وَنَكَحَتْ زَوْجًا غَيْرَهُ. أطرافه 2052، 2640، 2659، 2660، 5104 - تحفة 9905
88 - قوله: (ففارقها) لعله بالتطليقِ لأنه لم يثبت كونُها مرضعةً بعدُ، وإنما الفسخُ فيما لو تحققَ كونها مرضعة. وإن كان المرادُ أنه فارقَها بأمر النبي صلى الله عليه وسلّم فلينظر فيه المجتهد أنَّ حكمَهُ هذا كان قضاءً أو دِيانةً. ومسائلنا تقتضي أن تكون ديانة، والله تعالى أعلم بالصواب.