وإنما قَطَعَه الشاعرُ عن إعراب ما قبله ونَصَبَهُ إعراضًا عن الشركة وإفادةً للمصاحبة كما قرره الرَّضي في قوله:
*للبْسُ عَباءَةٍ وتَقَرَّ عيني ... أحبُّ إليَّ من لُبْس الشُّفُوفِ
فإِنه صرَّح أن نصبَ المضارع للقطع عن العطف ولإِفادة المصاحبة، وهو «واو» الصرف عندهم لصرفه عن حقيقتها التي هي العطف، لأن الشاعر إنما أراد أن لُبْسَ العباءةُ مُصَاحبًا مع هذا أحبّ إليه، يعني هذا المجموع أحبّ إليه؛ ولا يريدُ أن هذا محبوبٌ وهذا أيضًا محبوب. ومرَّ عليه ابن هشام «في المغني» وقال: إن بعضهم أضافوا قِسمًا آخر وسمَّوه «واو» الصرف كما في الشعر للبس عباءة الخ. ثم قال: ولا حاجة إليه، فإِنَّا نقدرُ الناصبَ ونقول: ولَلُبسُ عَبَاءةٍ وأن تَقرَّ عيني ... إلخ. قلت: وليس الأمرُ كما زعمه لفسادِ المعنى. والوجه ما ذَكَره الرَّضي.
ومن ههنا تبينَّ أن «الواو» في قوله تعالى: {قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِى الاْرْضِ جَمِيعًا} [المائدة: 17] ليس للعطف. ومعناه: أن الله إن أراد أن يُهلِكَ المسيحَ ابن مريم مع كون أمه ومن في الأرض في حمايته لا يملكُ أحدٌ أن ينقذه من الله. وليس الإِهلاك ههنا واقعًا على هؤلاء جميعًا، لأن المقصود هو إظهارُ القُدرةِ على إهلاك مَنْ جُعل إلهًا من دون الله وافترى عليه بالألوهية، ولو كان هؤلاء أعضاد آله، لا إهلاكُ من في الأرض.
والفرق بين إهلاكِ المسيح عليه السلام في حال مُصَاحبةِ جميع مَنْ في الأرض وحمايتهم إياه وإهلاك جميع مَنْ في الأرض غير خفي، فإِن في الإهلاك الأول قوةً ليست في الثاني، فهو على حد قوله: {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْءانِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88)} [الإسراء: 88] فعجزُهم في حال المظاهرة أبلغُ من عجزهم في غير هذا الحال، فكذلك إهلاكُ جميع مَنْ في الأرض، وإن كان دليلًا على قُدرته على إهلاكِهِ أيضًا، إلا أن إهلاكه، مصاحبًا جميع من في الأرض إياه، أدلُّ على قدرته من إهلاكه في غير هذا الحال، فإن القدرةَ في صورة إهلاك الجميع ضِمنني بخلافه في تلك الصورة.
والحاصل: أن المسوقَ له في هذا الموضع هو بيانُ إهلاك من اتخذوه إلهًا وهو يَتِم بالمفعول معه ما لا يتم بالعطف كما علمت. وعلى هذا صارت الآيةُ قاطعةً قاهرةً على من تفَّوَه بوفاة المسيح وتمسكِ بهذهِ الآية، ودلت كالشمس في رَابعة النهار على أنه لم يمت وأنه حيٌ بعد. وأنه تعالى لو أراد إهلاكَه لم يَمْنعه أحدٌ، فعُلِم أنه لم يَهلِك، ولو كان هَلَكَ لكان ذِكْرُ هلاكِهِ أحرى من بيان القدرة فقط. ولمَّا لم يذكره مع داعيةِ المقام، عُلِم أنه لم يهلكِ بعد، وإلا لكان هلاكُه أفحَم للنصارى.
ولكن الله سبحانه انتقل من بيان الهَلاك إلى بيان قدرتِهِ ثُمَّ صرَّحَ عليه في النساء وقال: {وَإِن مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} [النساء: 159] فأعلن أنه لم يَمتُ ولو كان ماتَ لكرره في ردِّ الألوهية، مع أنَّه ذكر مخاضَ والدته وكونُه مولودًا كسائر الناس، إلا أن وِلادَتَه لما كانت بالنفخ على خلاف ولادة عامة الناس، نبَّه على هذا الأمر البديع، ليُعلِم أن الإِنسانَ لا