قوله تعالى: {يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النَّبِيّ} [الأحزاب: 53] ... إلخ. فلعلها هي الدَّعامة في هذا الباب والبواقي تفاصيلها. وليعلم أن في قصة زينب رضي الله عنها أيضًا إشكالًا، فعن أنس رضي الله عنه أن الحجاب نزل بعدما خرج القومُ حين أراد أَنس رضي الله عنه أن يدخلَ بيته الشريف. وعنه في تلك القِصة أنَّه نَزَل الحجاب ثم خرج القوم.
فإِن قلت: إن الآية التي نزلت في واقعة زينب رضي الله عنها ليس فيها حجابُ الوجوه ولا حجاب الشخص، بل فيها أمرٌ ثالثٌ وهو نهيُ الدخول عليهن. قلت: ويعلم منها بطريق العكس نهي الخروج عليه مع استثنائه عند الحوائج [1] ثم اعلم أن هناك آياتٌ أخرى متعلقةٌ بمسألةِ الحجاب، فمنها: {قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور: 30] إلخ. فحكم الرجال والنساء بغض البصر، ومنها: {يَأَيُّهَا النَّبِىُّ قُل يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ} [الأحزاب: 59]. ومنها: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور: 31] والجِلباب: هو الرِداء الساتر لجميع البدن، والخِمار: ثوب صغير يُلقى على العمائم، وتجعله النساء على رءوسهنَّ لستر الجيب.
فإن قلت: إن إدناء الجِلباب يُغني عن ضرب الخُمُر على جيوبهن. قلت: بل إدناء الجِلباب فيما إذا خرجت من بيتها لحاجة، وضرب الخُمُر في عامة الأحوال، فضرب الخُمُر أيضًا محتاج إليه. ومنها: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} [النور: 31] إلخ. قيل: الزينة هي الوجه والكفان، فيجوز الكشف عند الأمن عن الفتنة على المذهب، وأفتى المتأخرون بسترها لسوء حال الناس. وقيل المراد بها: الزينةُ المكتسبة من الثياب والحُلي، فما ظهرَ منها بعد مُرَاعاة التسترُ يكون عفوًا.
قلت: وهو المراد عندي، فإِن التي يعدُّونها أهل العرف زينةً هي هذه لا غير، وإليه يشيرُ قوله تعالى: {وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ} [النور: 31] أي لئلا تنكشف زينتهم المكتسية. ومنها: {وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ} إلخ [الأحزاب: 33] والخطاب فيها وإن كان خاصًا إلا أن الحكمَ عامٌ، ثم الخروج عند الحوائج ليس من تبرج الجاهلية في شيءٍ، إنما تبرجهم أن يخرجن كالرجال بالوقاحة وعدم التسترُ. فهذه نسق آيات الحجاب عندي والله تعالى أعلم بالصواب.
اطلاع: واعلم أن القَسْطَلاني أوضح مرادَ الحافظ رضي الله عنه في هذا الموضع فراجعه [2]. [1] قلت: وإنما أخذ نهيَ الدخول في العنوان لحال المورد إذ ذاك، وقد مر في كتاب الإِيمان أن القرآن يذكرُ المسألةَ مع إشارته إلى المورد للارتباط ويحدُث منه الإِشكال. [2] قال العلامة القسَطلَّاني: قوله: "قد أذنَ لَكن أن تخرجن لحاجتكن" دفعًا للمشقة ورفعًا للحرج، وفيه تنبيه على أنَّ المراد بالحجاب الستر، حتى لا يبدو من جسدهنَّ شيء، لا حجب أشخاصهن في البيوت. والمراد بالحاجة البَراز كما وقع في الوضوء من تفسير هشام بن عروة، وقال الكِرْماني وتبعه البراوي: فإِن قلت: قال ههنا: إنه كان بعد ما ضرب الحجاب، وقال في كتاب الوضوء باب خروج النساء إلى البراز: أنه قبل الحجاب. "قلت": لعله وقع مرتين، اهـ، ومراده أَن خروجَ سَوْدة للبَرَاز وقول عمر رضي الله عنه لها ما ذُكر، وقع مرتين =