وأما العقوبات فخمسة أيضًا: حد رِدَّة، وقذف، وزنا، وسرقة، وقصاص. ولم يَشتَرِط فيها النية واحد منهم [1].
فيا ليت شعري! كيف زعموا أن الحديث واردٌ علينا وموافق لهم؟! مع أنهم أخرجوا عنه المعاملات والعقوبات بتمامهما أيضًا، فلو كان الحديث يرد علينا في الوسائل فقط، فقد ورد عليهم في المعاملات والعقوبات.
ثم أقول: إن من الوسائل ما يشترط فيها النية عندنا أيضًا، كالتيمم، والوضوء بالنَّبيذ، فإنها شرط للصحة فيهما. والعجب أن الإمام الأَوْزَاعي، والحسن بن حَيّ، لا يشترطان النية في التيمم أيضًا كما في العيني، فقد سبقوا إمامنا أبا حنيفة في عدم اشتراط النية.
أما اشتراط النية في التيمم عندنا، فلأن الأرض ليست طهورًا بطبعها، وإنما هو بالجَعْل، كما قال صلى الله عليه وسلّم «جُعِلتْ لي الأرض مسجدًا وطهورًا». وإنما يُسْتعمل الجعل فيما ينصرف الشيء عن حقيقته، فالأرض ليست بطهور في أصلها، وإنما جُعلت طهورًا لهذه الأمة كرامة لها، بخلاف الماء فإنه ليس طهورًا بالجعل، بل أُنزل على هذه الصفة كما قال: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَآء مَآء طَهُورًا} [الفرقان: 48]، فلا يحتاج فيه إلى النية، بل تقع به الطهارة بمجرد استعماله، نعم، لا يكون عبادةً بدون النية كما هو مُصرَّح في كتبنا، بخلاف التراب، فإنه ليس طهورًا بالطبع، فاحتاج إلى ضمّ النية ليظهر معنى الجَعْل.
وهذا كما شرط الشافعية النية للجمع عند الجمع بين الصلاتين، فإنه لو مضى وقت الصلاة الوقتية ولم ينو جمع التأخير، يكون فاسقًا عندهم، فلا بد له أن ينوي الجمع قبل مضي الوقت في التأخير، وقبل السلام في التقديم. فكذلك شرطنا النية في التراب. بقي النَّبيد، فلعلهم شرطوا النية فيه لأجل نقص في معنى الطَّهورية، فإنه لم يبق على الصفة التي أنزل عليه، وإن كان طهورًا وطاهرًا.
ويقول العبد الضعيف: معناه أن النَّبيذ ماءٌ مُطلق عندنا، إلا أنه ليس كالقَرَاح، فكأنه بين المُطلق والمقيد، وكثير من الحقائق ما يدور النظر فيها ولا يزال يتردد ولا يقنع إلا بعد إقامة المراتب. فالنبيذ إن قلنا: إنه ماء مقيد فلا يُناسب أذواقنا، وإن قلنا: إنه مطلق فكذلك، فإنه ليس كالقَرَاح، فصار نظر إمامنا أنه أقرب إلى الإطلاق، فوضعه تحت المطلق وفوق المقيد، وشَرَط فيه النية إظهارًا لدنو رتبته، ولو علم الخصوم مُدْرَك إمامنا لما طعنوا عليه في هذه المسألة، وهذا كالحقيقة القاصرة تعسَّر عليهم دَرْجُها في الحقيقة المطلقة، وكذا في المجاز، فأقاموا المراتب، وجعلو فوق المجاز وتحت الحقيقة وسمَّوها: حقيقة قاصرة.
فالحاصل: أن في الوسائل أيضًا نية عندنا ولو في الجملة. ولو تعمقنا النظر فالنية مرعية [1] قال العبد الضعيف: وقد كان شيخي رحمه الله تعالى ذكر وجه عدم ذكرهم حد الخمر فيها، وأنا نسيتها، اللهم إلا أن يكون إنه لا يجري على أهل الذمة.