استخرج من قوله عليه الصلاة والسلام أن الكذب يكون تارة عن عمد وتارة عن غير عمد، فأتى بجملة غاية في الاختصار وهي قوله: "ودليل هذا الخطاب يرد عليهم لأنه يدل على أن ما لم يتعمد يقع عليه اسم الكذب".
فاستنتاجه على اختصاره محكم الرد مقنع غاية الإِقناع لمن تأمله وتدبر فيه.
وتحليل جوابه: أنه عليه الصلاة والسلام أفصح العرب أخبر أن الكاذب عليه إن تعمد الكذب، فليتبوأ مقعده من النار. ومن كذب ولم يتعمد فحكمه غير حكم الكاذب المتعمد، فهو قد أطلق اسم الكاذب على المتعمد وغيره، وهو إطلاق واضح لا يحتمل وجهاً آخر ولو مع التكلف.
وإذا أخذنا هذا في جانب الكذب فالصدق لا يخرج عنه إذ أنهما من واد واحد.
فما ادعاه الجاحظ من أن الكذب لا يكون كذباً وكذلك الصدق إلا إذا طابق الكلام الواقع والاعتقاد أو خالفهما ليس بشيء حيث أطلق - صلى الله عليه وسلم - اسم الكذب على الكلام المخالف للواقع وإن لم يطابق الاعتقاد. وبهذا يظهر أن لا مدخل لمطابقة الاعتقاد في إطلاق الكذب إذ هذا الاسم يطلق على ما طابق الاعتقاد وما خالفه، وإنما المراعى مطابقة الواقع.
وقد ذكرنا هذه المسألة مسألة الكذب التي ناصر فيها المازري الأشْعرية الطريقة التي سلكها من كتب من الأشاعرة وما هو أسلوبهم فيها، وما ذكرة المازري ليظهر الفرق بين الأسلوبين بينما غيره يطيل في الردود، ويظهر جوانب متعددة حتى يرد على كل جانب جانب منها، نرى المازري لا يسلك تلك الطريقة وإنما يعمد إلى أقرب الأبواب في تثبيت ما يراه دون إطالة مع إحكام الرد كما وضحناه بحيث لا يبقى للخصم مقال، فإنه يهجم من أول وهلة إلى الغاية المرادة دون تضييع الفرصة السانحة في إبكات خصمه إذ