وحدث عبد اللَّه بن محمد البلوي، قال: كنت أنا وعمر بن نباتة جلوسًا نتذاكر العبّاد والزهاد، فقال لي عمر: ما رأيت أورع ولا أفصح من محمد بن إدريس الشافعي؛ خرجت أنا وهو والحارث بن لبيد إلى الصفا وكان الحارث، تلميذ صالحِ المري فافتتح يقرأ وكان حسن الصوت فقرأ {هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (35) وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} [1] فرأيت الشافعي قد تغير لونه، واقشعر جلده، اضطرب اضطرابًا شديدًا، وخر مغشيًّا عليه، فلما أفاق جعل يقول: أعوذ بك من مقام الكذابين وإعراض الغافلين، اللهم لك خضعت قلوب العارفين وذلت هيبة المشتاقين، إلهي هب لي جودك، وجَلِّلْني بسترك واعف عن تقصيري بكرم وجهك. قال: ثم قمنا وانصرفنا، فلما دخلت بغداد -وكان هو بالعراق- قعدت على الشط أتوضأ إذ مرَّ لي رجل فقال لي: يا غلام؛ أحسن وضوءك أحسن اللَّه إليك في الدنيا والآخرة فالتفتُّ فإذا أنا برجل يتبعه جماعة فأسرعت في وضوئي وجعلت أقفو أثره فالتفتَ إليَّ فقال: هل لك من حاجة؟ فقلت: نعم؛ تعلمني مما علمك اللَّه شيئًا، فقال لي: اعلم أن من صدق اللَّه نجا، ومن أشفق على دينه سلم من الرَّدى، ومن زهد في الدنيا قرت عيناه بما يرى من ثواب اللَّه غدًا، أفلا أزيدك؟ قلت: نعم بلى [2]، قال: من كان فيه ثلاث خصال فقد استكمل الإيمان؛ من أمر بالمعروف وائتمر، ونهى عن المنكر وانتهى، وحافظ على حدود اللَّه تعالى، ألا أزيدك؟ قلت: بلى. قال: كن في الدنيا زاهدًا وفي الآخرة راغبًا واصدق اللَّه في جميع أمورك تنج مع الناجين، ثم مضى. فسألت عنه فقيل لي: هو الشافعي.
وقال الشافعي: ما شبعت منذ [ست] [3] عشرة سنة لأن الشبع يثقل البدن، ويقسي القلب ويزيل الفطنة ويجلب النوم ويضعف صاحبه عن العبادة. [1] المرسلات: [35 - 36]. [2] كذا بالأصل، ولا يصح الجواب بنعم، ولعله تلعثم في الجواب فصوب خطأه في الثانية. [3] ما بين المعقوفتين مثبت من الحلية (9/ 127) وفي الأصل وضع علامة لحق فنظرنا في الهامش فرأينا الكلمة مطموسة وعليها (صح) فأثبتنا ما في الحلية ولموافقته للسياق ..