ومما يدل على رعايتهم جانب القرب والمجاورة، أنهم قالوا: جحر ضرب خرب، وماء شَن بارد، فأتبعوا الأوصاف إعراب ما قبلها وإن لم يكن المعنى عليه، فَجُحر -كما قلنا من قبل- خبر لمبتدأ محذوف، والتقدير: هذا جحر، وهو مضاف، وضب مضاف إليه، ثم جاء النعت خرب، المفروض في المعنى أن يكون الخراب صفةً للجحر وليس صفةً للضب، ومع ذلك جاء الخراب أو جاء الوصف مجرورًا؛ مراعاةً لمجاورته للمجرور، وكذلك: ماء شن بارد، الشن: هو قِربة الماء، والشن لا يوصف بالبرودة وإنما الذي يوصف بالبرودة هو الماء في داخل الشن، فيقال: ماء شنٍ باردٌ، إلا أن المسموع عن العرب: ماء شنٍ باردٍ بالإتباع الشن على اللفظ بالجر؛ مراعاةً للجوار وإن لم يكن المعنى عليه. فإذا كانوا قد لحظوا المجاورة مع فساد المعنى، فالأحرى أن يلحظوها مع صراحه، ومع ذلك فقد أكد سيبويه أنه إذا حدث نقض للمعنى خرج الكلام من باب التنازع، ولذلك قال في قول امرئ القيس:
فلو أن ما أسعى لأدنى معيشة ... كفاني ولم أطلب قليلٌ من المال
قال: "فإنما رفع؛ لأنه لم يجعل "القليل" مطلوبًا، وإنما كان المطلوب عنده الملك، وجعل "القليل" كافيًا، ولو لم يرد ذلك ونصب فسَدَ المعنى"، انتهى. يعني: أن الشاعر امرأ القيس رفع "قليلًا" بكفاني، قال: "كفاني قليل من المال" ولم ينصبه بأطلب، إذ الرواية جاءت برفع "قليل"، قال: لأنه إنما أراد: لو سعيتُ لمنزلة دنية كفاني قليل من المال، ولم أطلب الملكَ، وعلى ذلك معنى الكلام. فإذن هنا عاملان؛ العامل الأول: كفى، والعامل الثاني: أطلب، وجاء المعمول مرفوعًا، هذا الرفع متعلق بالعامل الأول، ولا يمكن أن يوجه إليه العامل الثاني، إذ لو وُجِّه إليه العامل الثاني لفسد المعنى، قال: لو سعيت لمنزلة دنية كفاني قليل