الأسماءَ هي الأُولى". فأشار سيبويه بهذه العبارة إلى خِفة الأسماءِ المنصرفةِ، وأنّ الصرفَ فيها هو الأولُ والأصلُ، وأنّ الذي مَنع الصرفَ عِلَلٌ مِن بعد ذلك دخلتْ عليها -أي: على الأسماء- فهي عللٌ حادِثةٌ فرعيةٌ، فدَلّ هذا على أنّ الفعلَ أثقلُ من الاسمِ في الأصل؛ فعِلةُ كونِ الأسماء مستحقةً للصرف هي استصحابُ الأصل، وهي بعينها علةُ استحقاقِ الأفعال عدمَ الصرف.
ومن هذا القَبيل قوله: "واعلم أنّ النكرة أخفُّ عليهم من المعرفةِ، وهي أشدُّ تمكُّنًا؛ لأنّ النكرةَ أولُ، ثم يدخل عليها ما تُعَرَّفُ به، فمِن ثَمَّ أكثرُ الكلام ينصرف في النكرة. واعلم أنّ الواحدَ أشدُّ تمكُّنًا من الجميع؛ لأنّ الواحدَ أولُ، ومِن ثَمَّ لَمْ يصرفوا ما جاء من الجميع ما جاء على مِثالٍ ليس يكون للواحد، نحو: مساجدَ ومفاتيحَ. واعلم أنَّ المذكر أخفُّ عليهم من المؤنث؛ لأنّ المذكرَ أولُ، وهو أشدّ تمكنًا، وإنما يخرج التأنيثُ من التذكيرِ".
وفي قوله تعالى: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (طه: 43، 44). ذهب سيبويه في (الكتاب) إلى أن لعل على بابها من الترجي، وأن الترجيَ في حق موسى وهارونَ -عليهما السلام- وأن المعنى: اذهبَا أنتما في رجائِكما وطمعكما ومَبلغِكما من العلم. ففي كلام سيبويه إبقاءُ ما كان على ما كان، أي: إبقاءُ لعلَّ على معناها الأصلي، وهو الترجي، فبقي حالُ اللفظِ على ما يستحقه، ولم ينتقل عن أصلِه؛ لعدمِ الدليلِ، وهذا هو الاستصحابُ، وإن لم يُسَمِّهِ سيبويه باسمه.
وإذا كان سيبويه قد استدل باستصحابِ الحالِ في كتابه، فقد اقتفى أثرَه كثيرٌ من العلماء بعده، منهم الزجاجيُّ في كتابه (الإيضاح في علل النحو)، وابنُ جني في كتابه (الخصائص). أما الزجاجي فقد ذكر أن الحروفَ كلَّها مبنيّةٌ ولا يُعرَب شيءٌ