الاستدلال بالعكس
إن الاستدلالَ بالعكس دليلٌ من أدلة الأصوليين، ويعبرون عنه بقياس العكس، ويعرِّفونه بأنه: عدم الحكم عند عدم العلة، وقد جعله السيوطي أولَ الأدلة غير الغالبة، فقال: "ومنها الاستدلال بالعكس، أي: جعْلُ عكس الحكم دليلًا"، وبهذا الدليل رُدّ على الكوفيين زعمُهم أن الخبر إذا كان ظرفا كان منصوبًا بالخلاف؛ ومعنى كلام الكوفيين أنه إذا قيل: زيدٌ أمامَك، وعمرو وراءَك، فالظرفان أمامَك ووراءَك منصوبان بالخلاف، وحجتهم في ذلك أن خبر المبتدأ هو المبتدأ في المعنى، فإذا قيل: زيدٌ قائمٌ، وعمرو جالسٌ، فزيدٌ مبتدأ، وقائمٌ خبره، فقائم هو زيد في المعنى، والقائم هو زيدٌ. وكذلك عمرو هو الجالس، والجالس هو عمرو. فيستحقّ الخبر أن يكون مرفوعًا. وإذا قيل: زيدٌ أمامَك، وعمرو وراءَك، لم يكن أمامك في المعنى هو زيد، ولا وراءك في المعنى هو عمرو، كما كان قائمٌ في المعنى هو زيد، فلما كان مخالفًا نُصب على الخلاف.
ومما سبق يتبين أن الكوفيين يرون أن عامل النصب في الظرف الواقع خبرًا هو عاملٌ معنوي عبروا عنه باسم الخلاف، ومعناه هنا: المخالفة بين الخبر والمبتدأ، وأرادوا به أن الخبر ليس هو المبتدأ في المعنى، وإنما هو مخالفٌ له. وقد أفسدَ الأنباريُّ هذا القولَ مستدلًّا على فساده بالعكس؛ لأنه لو كان عامل النصب في الظرف هو الخلاف لكان من الواجب أن يكون المبتدأ أيضًا منصوبًا؛ لأن الخلاف مصدر الفعل خالف، وبِنْيَةُ هذا الفعل تدل على المشاركة بين اثنين يخالف كلٌّ منهما صاحبَه، كما هو شأن المفاعلة، نحو: خاصمَ، ولا يُتصور الخصامُ من واحد، وكذلك جادل، ولا يُتصور الجدال من واحد، فإذا كان الخبر مخالفًا