المضارعُ مرفوعًا فإنه لا يجوز عند الأنباري أن يُقال: إن رافعه هو تجرده من الناصب والجازم؛ لأن التعبير بالتجرد منهما يؤدِّي إلى سبقهما للرفع، ويؤدي إلى أن المضارع تجرد منهما بعد أن كان متلبسًا بهما، وهو خلاف الأصول؛ إذ إن الأصول شاهدةٌ بتقدم الرفع عليهما.
ويدل على تقدم الرفع على النصب أن الرفع حكمٌ ثابتٌ للفاعل، وهو عمدةٌ، كما أن النصبَ حكمٌ ثابتٌ للمفعول به، وهو فَضلةٌ، فكما أن الفاعلَ قبل المفعول مَنْزِلَة واعتبارا، فكذلك الرفع يكون قبل النصب مَنْزِلَةً واعتبارًا. ويدل على تقدم الرفع على الجزم أن الرفع في الأصل صفة من صفات الأسماء، والجزم من صفات الأفعال، والأسماء متقدمة في الرتبة على الأفعال، فكذلك الرفع متقدمٌ في الرتبة على الجزم.
وخلاصة ما سبق أن الأصلَ هو تقدم الرفع على النصب والجزم، فمن قال: إن المضارع مرفوعٌ بتجرده من الناصب والجازم فقد قدم النصبَ والجزمَ على الرفع، وبذلك يكون قد خالف أصلًا من أصول النحاة، فلا يُقْبَلُ قَوْلُهُ ولا يُرتضَى مذهبه عند الأنباري. وهذا القولُ الذي رده الأنباريُّ واستدل على إبطاله بالأصول هو رأي حُذّاق الكوفيين، يقول الفَرّاءُ في (معاني القرآن) عند قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} (البقرة: 83): "رُفعت: {تَعْبُدُونَ} لأن دخول أنْ يصلح فيها، فلما حُذف الناصب رُفعت، وهو القول الذي يجري على ألسنة المعربين".
ونختم بقول أحد الباحثين المعاصرين: " والحق أن استدلال الأنباري يبدو عليه التكلف؛ إذ يُمكن الاعتراضُ عليه من عدة أوجه؛ فمن الممكن أن نقول: إن التعريَ أسبقُ من التقييد، فالتعري أولًا، ولما كان الرفع هو الأول كان ملازمًا للتعري، كما يمكن أن يُقال: إن الفعلَ المضارعَ رُفِعَ؛ لأنه لم يدخل عليه ناصبٌ فينصبَه، ولا جازمٌ فيجزمَه، دون أن نمَس أسبقية الرفع للنصب والجزم ".
هذا والله ولي التوفيق، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.