ومن العجيب أننا نجده يفرد بابًا في (الخصائص) عنوانه: باب في الحكم يقف بين الحكمين، ويصدره بقوله: "هذا فصل موجود في العربية لفظًا، وقد أعطته مقادًا عليه وقياسًا"، ثم يذكر أن من ذلك بيت (الكتاب):
له زجل كأنه صوت حاد ... ...... ..... ..... ....... ..... ....
ويقول معلقًا عليه: "فحذف الواو من قوله: كأنه لا على حد الوقف ولا على حد الوصل، أما الوقف فيقضي بالسكون كأنهْ وأما الوصل فيقضي بالمطل وتمكين الواو كأنهُ. فقوله إذن: كأنهُ منزلة بين الوصل والوقف، وكذلك أيضًا سواء قوله:
يا مرحباه بحمار ناجية ... إذا أتَى قربته للسانية
فثبات الهاء في مرحباه ليس على حد الوقف ولا على حد الوصل، أما الوقف فيؤذِن بأنها ساكنة: يا مرحباه، وأما الوصل فيؤذن بحذفها أصلًا: يا مرحبا بحمار ناجية، فثباتها إذن في الوصل متحركة -أي: قوله: يا مرحباه بحمار ناجية- منزلةٌ بين المنزلتين"، انتهى. ثم يقول في ختام هذا الباب: "فظاهر هذا الجمع بين ضدين، فهو إذن منزلة بين المنزلتين، وسبب جواز الجمع بينهما أن كل واحد منهما قد كان جائزًا على انفراده، فإذا جُمع بينهما فإنه على كل حال لم يَكْلَف إلا بما من عادته أن يأتي به مفردًا، وليس على النظر بحقيقة الضدين كالسواد والبياض والحركة والسكون، فيستحيل اجتماعهما، فَتَضَادُّهُمَا إذن إنما هو في الصناعة لا في الطبيعة، والطريق مُتْلَئِبة منقادة، والتأمل يوضحها ويمكنك منها"، انتهى.
فعبارات ابن جني في هذا الباب الأخير توحي بأن المُنَزَّلَ بين منزلتي الوصل والوقف معهود موجود في العربية لفظًا واستعمالًا، وجائز قياسًا، فقد أعطته