الحكم في معارضة مجرد الاحتمال للأصل والظاهر
لقد تناول ابن جني هذه القضية في موضعين من (الخصائص)، وعليهما عوَّل السيوطي في (الاقتراح)، بيد أنه أوردهما بعكس ترتيب ورودهما في (الخصائص): فبدأ بالموضع الثاني في (الخصائص)، وافتتح المسألة بقوله: "قال في (الخصائص): باب في الشيء يرد، فيوجب له القياس حكمًا، ويجوز أن يأتي السماع بضده، أُيقطع بظاهره، أم يتوقف إلى أن يرد السماع بجلية حاله؟ " انتهى. ومعنى قول ابن جني: "أيقطع بظاهره" أي: لا يُنظر إلى ما يحتمله اللفظ، وإنما ينظر إلى ظاهر حاله ومعنى قوله: "بجلية حاله" أي: بحاله الجلية الظاهرة، ومن الواضح أن ابن جني لم يذكر فيه رأيه ومذهبه صراحة، وإن كان تقديمه للقطع في اللفظ يدل على تقديمه إيَّاه في العمل. وقد كثرت الأمثلة التي تدل على أنه إذا تعارض الظاهر مع الاحتمال كان القول بالظاهر أولى، ومنها:
القول في نون عنبر وعنتر ونحوهما، فإن الظاهر هو القول بأن النون فيهما أصلية؛ لأنها وقعت في موضع الأصل وهو العين في فعلل نحو: جعفر، فلما وقعت النون في موضع الأصل كان الظاهر أنها أصلية، ويجوز أن يُحكم على النون بأنها زائدة، كما قيل بزيادتها في عَنْسَل، وهي الناقة السريعة، فإن النون فيها زائدة قطعًا، ويدل على زيادتها الاشتقاق من العسلان، وهو إسراع الذئب في مشيته، فحكموا بأن وزنه فنعل، مع عدم هذا الوزن في أبنيتهم، وإنما أوجبوا أن يكون عنسل على وزن فنعل؛ لأن الاشتقاق دال عليه، وهذا هو الأصح، وبه جزم سيبويه في كتابه فقال: "ومما جعلته زائدًا بثبت العنسل، لأنهم يريدون العَسُول" انتهى.