مطرح من رأيه"، ثم ذكر أن من أمثلة الشائع في الرجوع عنه من المذاهب ما كان أبو العباس المبرد قد تتبع به كلام سيبويه وجمعه في كتاب سماه (مسائل الغلط)، ثم اعتذر منه وكان يقول: "هذا شيء كنا رأيناه في أيام الحداثة، فأما الآن فلا".
فإن تعذر الأخذ بأحدهما وتأويل الآخر، ولم ينص العالم على الرجوع عن أحدهما، واستبهم الأمر فلم يُعرف التاريخ؛ وجب سبر المذهبين، وإنعام الفحص عن حال القولين، فإن كان أحدهما أقوى من صاحبه؛ وجب إحسان الظن بذلك العالم، وأن ينسب إليه أن الأقوى منهما هو قوله المعتمد الذي به يقول وله يعتقد، وأن الأضعف منهما هو القول الذي تركه ولم يعتمده، وإن تساوى القولان في القوة؛ وجب أن يُعتقد أنهما رأيان له، وأن الدواعي إلى تساويهما عند الباحث عنهما هي الدواعي التي دعت القائل بهما إلى أن اعتقد كلًّا منهما.
وذكر ابن جني أن أبا الحسن الأخفش كان يقع له ذلك كثيرًا، حتى إن أبا علي كان إذا عرض له قول عنه يقول: "لا بد من النظر في إلزامه إياه؛ لأن مذاهبه كثيرة"، كما حكى عن أبي علي -رحمه الله- أنه كان يقول في هيهات: "أنا أفتي مرة بكونها اسمًا سُمي به الفعل كصه ومه، وأفتي مرة أخرى بكونها ظرفًا على قدر ما يحضرني في الحال"، وقال مرة أخرى: "إنها وإن كانت ظرفًا فغير ممتنع أن تكون مع ذلك اسمًا سُمي به الفعل كعندك ودونك" يعني: أن أبا علي كان يرى مرة أن هيهات اسم فعل ماض بمعنى بعُد كصه، التي هي اسم فعل أمر بمعنى: اسكت، ومه التي هي اسم فعل أمر أيضًا بمعنى اكفف، فيفتي بذلك، ومرة أخرى يراها ظرفًا فيفتي بكونها ظرفًا يعني إذا قلت: هيهات ما تقول، فالمعنى: في البُعد ما تقول. وكان مرة ثالثة يرى أنها وإن كانت ظرفًا فغير ممتنع أن تكون ظرفًا سُمي به الفعل.