ثم هو يدعو إلى التعليل النحوي ويشجع عليه ويقول: "فكل من فُرق له عن علة صحيحة، وطريق نهجة كان خليل نفسه، وأبا عمرو فكره"، وهو يحدد الفروق الدقيقة بين العلة النحوية والعلل في العلوم الأخرى، فيذكر أن علل الحذاق المتقنين من النحويين أقرب إلى علل المتكلمين منها إلى علل المتفقهين، وذلك أنهم يُحيلون على الحس، ويحتجون بثقل الحال أو خفتها على النفس، وليس كذلك حديث علل الفقه، وذلك أنها إنما هي أعلام وأمارات؛ لوقوع الأحكام، ووجوه الحكمة فيها خفية عنا، غير ظاهرة لنا، ويوضح أن الشريعة إنما جاءت من عند الله تعالى، ومعلوم أنه سبحانه لا يفعل شيئًا إلا ووجه المصلحة والحكمة قائم فيه، وإن خفيت عنا أغراضه ومعانيه، وليس كذلك حال اللغة، ويذكر أنا قد نجد أيضًا في علل الفقه ما يضح أمره، ونعرف علته نحو: رجم الزاني إذا كان محصنًا، وحدِّه إذا كان غير محصن، وذلك لتحصين الفروج وارتفاع الشك في الأولاد والنسل، وزيد في حد المحصن على غيره لتعاظم جرمه، وجريرته على نفسه.
وكذلك إقادة القاتل بمن قتله لحقن الدماء، وكذلك إيجاب الله الحج على مستطيعه؛ لما في ذلك من تكليف المشقة ليستحق عليها المثوبة، وكذلك نظائر هذا كثيرة جدًّا؛ بيد أن ما كانت هذه حاله من علل الفقه فهو أمر قائم في النفوس قبل ورود الشريعة به، ثم يقول: "واعلم أنا مع ما شرحناه وعُنينا به فأوضحناه من ترجيح علل النحو على علل الفقه، وإلحاقها بعلل الكلام، لا ندَّعي أنها تبلغ قدر علل المتكلمين، ولا عليها براهين المهندسين غير أنا نقول: إن علل النحويين على ضربين أحدهما: واجب لا بد منه، لأن النفس لا تطيق في معناه غيره، والآخر: ما يمكن تحمله إلا أنه على تجشم، واستكراه له"، انتهى.