مفهوم توحيد الألوهية عند القبوريين
أما القبوريون فإنهم يرون أن الألوهية مشتقة من الإله، و (إله) على وزن فعال بمعنى (فاعل) أي: (آله) بمعنى: خالق، فهم يفسرون توحيد الألوهية بأنه توحيد الربوبية، فيجعلون توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية بمعنى واحد لا يفرقون بينهما، ويقولون: التفريق بينهما خطأ كبير، وبناءً على هذا جعلوا الشرك منحصراً في الربوبية فقط، فمن نسب الخلق لغير الله عز وجل، أو نسب التدبير لغير الله عز وجل؛ فإنهم يعتبرونه مشركاً، أما لو صرف الخوف والمحبة وأنواع المرادات لغير الله عز وجل فإنهم لا يعتبرونه مشركاً، ومن هنا وقعت الخصومة الكبرى بين أهل السنة من جهة، وبين القبوريين من جهة أخرى، فأعمال عباد القبور عند القبور -مثل: الطواف حول القبر، والذبح لصاحب القبر، والنذر، والاستغاثة، ودعاء صاحب القبر ونحو ذلك -نرى أنها شرك أكبر؛ لأنها صرف للعبادة لغير الله عز وجل، أما هم فإنهم لا يرونها شركاً؛ لأنهم يقولون: إن هؤلاء لا ينسبون الخلق لغير الله، فقلنا لهم: وإذا كانوا لا ينسبون الخلق لغير الله فهل يعني هذا أنهم من الموحدين؟ فقالوا: نعم؛ لأن التوحيد هو إثبات أن الله هو الخالق الرازق المحيي المميت.
أما نحن فنقول: التوحيد ليس هو إثبات أن الله هو الخالق والرازق والمحيي والمميت فقط، بل هو أيضاً إفراد الله بالعبادة، ولهذا كان المشركون يعرفون أن الله هو الخالق الرازق المحيي المميت ولم ينفعهم ذلك، يقول الله سبحانه وتعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:106] فأثبت لهم شيئاً من الإيمان، لكنه لا ينفعهم، قال ابن عباس في هذا الإيمان الذي لا ينفعهم: إذا سألت أحدهم: من خلق السماء؟ من خلق الأرض؟ قال: الله، فهذا لا ينفعه؛ لأنه سبحانه قال: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:106].
ومن هنا لما جاءهم النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: قولوا: لا إله إلا الله، وهم يعترفون بأن الله الخالق والرازق والمحيي والمميت، فلم يقولوا ذلك موافقة له؛ لأنهم عرفوا حقيقة دين الرسول صلى الله عليه وسلم فقالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ} [ص:5] يعني: المعبودات {إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5].
وعندما نوقشوا في كونهم يعبدون الآلهة وهي أصنام قالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3] فصرحوا بلفظ العبادة فقالوا: ((مَا نَعْبُدُهُمْ))، فلم ينسبوا إليهم الخلق والرزق والإحياء والإماتة كما يظن القبوريون، وإنما عبدوهم من دون الله سبحانه وتعالى.
فحقيقة توحيد الألوهية هي صرف العبادة لله، والموحدون يتفاوتون في توحيد الألوهية، فبعضهم عنده أصل التوحيد، ولكن عنده ذنوب ومعاص تقلل من توحيده، وبعضهم توحيده تام كامل؛ لإتيانه بأصول العبادات والواجبات والمستحبات، ولهذا سيأتي معنا أن التوحيد ينقسم إلى قسمين: توحيد تام يكون لصاحبه الأمن والاهتداء التام، وتوحيد ناقص يكون لصاحبه أصل الأمن والاهتداء، ولكن ليس له الأمن التام، فقد يخاف، ولكن مرده إلى الأمن بإذن الله تعالى.