إن الإسلام يقرر الحقائق الخالدة المركوزة في فطرة هذا الوجود الثابتة ثبات السماوات والأرض ونواميسها التي لا تختل ولا تتزعزع. وطبيعة هذه الحياة البشرية قائمة على أساس التفاوت في مواهب الأفراد والتفاوت فيما يمكن أن يؤديه كل فرد من عمل والتفاوت في مدى إتقان هذا العمل. وهذا التفاوت ضروري لتنوع الأدوار المطلوبة للخلافة في هذه الأرض. ولو كان جميع الناس نسخا مكرورة ما أمكن أن تقوم الحياة في هذه الأرض بهذه الصورة.
ولبقيت أعمال كثيرة جدا لا تجد لها مقابلا من الكفايات، ولا تجد من يقوم بها - والذي خلق الحياة وأراد لها البقاء والنمو، خلق الكفايات والاستعدادات متفاوتة تفاوت الأدوار المطلوب أداؤها. وعن هذا التفاوت في الأدوار يتفاوت الرزق .. هذه هي القاعدة .. أما نسبة التفاوت في الرزق فقد تختلف من مجتمع إلى مجتمع، ومن نظام إلى نظام. ولكنها لا تنفي القاعدة الفطرية المتناسقة مع طبيعة الحياة الضرورية لنمو الحياة. ومن ثم لم يستطع أصحاب المذاهب المصطنعة المتكلفة أن يساووا بين أجر العامل وأجر المهندس، ولا بين أجر الجندي وأجر القائد. على شدة ما حاولوا أن يحققوا مذهبهم. وهزموا أمام الناموس الإلهي الذي تقرره هذه الآية من كلام اللّه. وهي تكشف عن سنة ثابتة من سنن الحياة. ذلك شأن الرزق والمعاش في هذه الحياة الدنيا. ووراء ذلك رحمة اللّه: «وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ» .. واللّه يختار لها من يشاء، ممن يعلم أنهم لها أهل. ولا علاقة بينها وبين عرض الحياة الدنيا ولا صلة لها بقيم هذه الحياة الدنيا. فهذه القيم عند اللّه زهيدة زهيدة. ومن ثم يشترك فيها الأبرار والفجار، وينالها الصالحون والطالحون. بينما يختص برحمته المختارين.
وإن قيم هذه الأرض لمن الزهادة والرخص بحيث - لو شاء اللّه - لأغدقها إغداقا على الكافرين به. ذلك إلا أن تكون فتنة للناس، تصدهم عن الإيمان باللّه: «وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ. وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ. وَزُخْرُفاً. وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا. وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ» ..