فالدنيا صفحة من صفحات الكون الكثيرة، والآخرة حلقة في سلسلة النشأة، وصفحة أخرى من الوجود، والذين لا يدركون حكمة النشأة ولا يعلمون صفحات الوجود، يغفلون عن الآخرة، ولا يحسبون حسابها ولا يعرفون أنها صفحة في كتاب الوجود ونقطة في خط سير الوجود لا بد أن يمر بها الإنسان.
والغفلة عن الآخرة تجعل كل المقاييس والموازين، والأفكار والأعمال تختل عند هؤلاء الغافلين، فلا يملكون تصور الحياة وأحداثها وقيمها تصوراً صحيحاً، ويظل علمهم بها ظاهراً سطحياً ناقصاً، لأن حساب الآخرة في نظر الإنسان، يغير نظرته لكل ما يقع في هذه الأرض.
فحياة الإنسان في الأرض إن هي إلا مرحلة قصيرة من رحلته الطويلة في الكون، حيث كان في صلب أبيه، ثم خرج إلى بطن أمه، ثم خرج إلى الأرض، ثم ينزل إلى القبر، ثم يخرج في النهاية إلى دار القرار في الجنة أو النار ..
ونصيبه في هذه الأرض إن هو إلا قدر زهيد من نصيبه الضخم في الوجود، والأحداث التي تحصل في هذه الأرض إن هي إلا فصل قصير من كتاب كبير.
إن المسلم والكافر كلاهما قادم إلى تلك الدار الآخرة، ولكن المؤمن مستعد لها لمعرفته بها، والكافر غير مستعد لها، لأنه لا يؤمن بها.
ومن هنا لا يلتقي إنسان يؤمن بالآخرة ويحسب حسابها، مع آخر يعيش لهذه الدنيا وحدها ولا ينظر ما وراءها.
فلكل منهما ميزان، ولكل منها خط، ولكل منهما اتجاه، ولكل منهما جزاء.
هذا يرى ظاهراً من الحياة الدنيا، وذاك يدرك ما وراء الظاهر:
يرى المخلوق ويتجاوزه إلى الخالق .. ويرى الصور ويتجاوزها إلى المصور .. ويدرك أن هذا الكون يسير بسنن لا تتبدل بأمر وإذن من رب العالمين .. سنن شاملة للظاهر والباطن .. والغيب والشهادة .. والدنيا والآخرة .. والحياة والموت .. والثواب والعقاب.
وهذا هو الأفق البعيد الواسع الشامل الذي ينقل الإسلام البشرية إليه، ويرفعها