ولعل هذا من تأثير الشعر في الخطابة من حيث الإيجاز والجمل القصار، أو لعل السبب ميلهم إلى النظر الجزئي والتعبير العاجل السريع الموجز؛ يقول الدكتور أحمد الحوفي: ولست أوافق الجاحظ على دعواه: أن العرب هم الخطباء في قوله: وجملة القول: أنا لا نعرف الخطب إلا للعرب والفرس؛ وأما الهند فإنما لهم معانٍ مدونة وكتب مجلدة، لا تضاف إلى رجل معروف، ولليونان فلسفة وصناعة ومنطق، وكان صاحب المنطق نفسه -يقصد أرسطو- بكيء اللسان غير موصوف بالبيان، وفي الفرس خطباء؛ إلا أن كل كلام للفرس وكل معنى للعجم فإنما هو عن طول فكرة وعن اجتهاد وخلوة، وعن مشاورة ومعاونة وعن طول التفكير ودراسة الكتب.
لا أوافق الجاحظ؛ لأن العرب من أخطب الأمم حقيقةً، ومن أحسنها بيانًا، وأحضرها بديهةً؛ ولكن الجاحظ غمط الأمم الأخرى حقها مدفوعًا بالعصبية للعرب حين كان الشعوبية يجحدون فضل العرب، ويحاولون أن يفرضوا مجدهم؛ أما إذا نظرنا إلى الارتجال والإعداد؛ وجدنا العرب أكثر الأمم ارتجالًا وأقلها إعدادًا؛ لأن الخطيب اليوناني ما كان ليتصدَّى للخطابة قبل أن يعد وينسق؛ مخافةَ النقد، وكذلك كان الخطيب الروماني؛ فقد كان "شيشرون" ينقح خطبَه ويتدرب على إلقائها قبل أن يخطب، وما زال هذا دأبه إلى سن الستين.
على أن الإسلام قد نقل العرب نقلًا جديدًا؛ فنمى الخطابة وقواها؛ إذ كانت من وسائله في الدعوة، ثم كانت من أسلحة الأحزاب السياسية التي نشأت بعد ذلك، وهي ضرورية في كل جمعة وعيد، ثم إنهم تأثروا بالقرآن الكريم والحديث الشريف والثقافة الإسلامية والعربية والدخيلة؛ فتعددت مجالي القول، وتنوعت الخطابة، والتصقت المعاني، وتسلسلت وصارت الخطبة ذات طابع لا