استنابه عبد الملك على مكة والمدينة والطائف واليمن [1][2].
* وقصة قتل ابن الزبير هي ([3]): [1] ابن كثير، البداية والنهاية، 9/ 125. [2] قال ابن عساكر في تاريخه، 12/ 117: أخبرتنا أم البهاء فاطمة بنت محمد، قالت: أنبأنا أبو طاهر ابن محمود الثقفي، نبأنا أبو بكر ابن المقرئ، أنبأنا أبو الطيّب الزَّرَّاد، نبأنا عبيد الله بن سعد قال: قال أبي: ودخل عبد الملك الكوفة، وبعث الحجاج بن يوسف إلى عبد الله بن الزبير، ورجع عبد الملك إلى دمشق، فحج الحجاج على الموسم سنة اثنتين وسبعين فلم يطف بالبيت، وحصر ابن الزبير قريباً من سبعة أشهر، انتهى. [3] قال ابن كثير في البداية والنهاية، 12/ 177 - 184: ((فلما استهلت هذه السنة (أي سنة 73) استهلت وأهل الشام محاصرون أهل مكة، قد نصب الحجاج المنجنيق على مكة ليحصر أهلها، حتى يخرجوا إلى الأمان والطاعة لعبد الملك. وكان مع الحجاج خلق قد قدموا عليه من أرض الحبشة، فجعلوا يرمون بالمنجنيق فقتلوا خلقاً كثيراً، وكان معه خمسة مجانيق، فألحّ عليها بالرمي من كل مكان وحبس عنهم الميرة، فجاعوا، وكانوا يشربون من ماء زمزم، وجعلت الحجارة تقع في الكعبة، والحجاج يصيح بأصحابه: يا أهل الشام، الله، الله في الطاعة. فكانوا يحملون على ابن الزبير وليس معه أحد حتى يخرجهم من باب بني شيبة، ثم يكرّون عليه فيشدّ عليهم، فعل ذلك مراراً، وقتل يومئذ جماعة منهم، وهو يقول: خذها وأنا ابن الحواري. وقيل لابن الزبير: ألا تكلمهم في الصلح؟ فقال: والله لو وجدوكم في جوف الكعبة لذبحوكم جميعاً، والله لا أسألهم صلحاً أبداً.
وذكر غير واحد: أنهم لما رموا بالمنجنيق، جاءت الصواعق والبروق والرعود، حتى جعلت تعلو أصواتها على صوت المنجنيق، ونزلت صاعقة فأصابت من الشاميين اثني عشر رجلاً، فضعفت عن ذلك قلوبهم عن المحاصرة، فلم يزل الحجاج يشجعهم، ويقول: إني خبير بهذه البلاد، هذه بروق تهامة ورعودها وصواعقها، وإن القوم يصيبهم مثل الذي يصيبكم، وجاءت صاعقة من الغد، فقتلت من أصحاب ابن الزبير جماعة كثيرة أيضاً، فجعل الحجاج يقول: ألم أقل لكم: إنهم يصابون مثلكم، وأنتم على الطاعة وهم على المخالفة؟ وكان أهل الشام يرتجزون وهم يرمون بالمنجنيق يقولون:
خطَّارة مثل الفنيق المزبد ... نرمي بها عُوَّاد هذا المسجد
فنزلت صاعقة على المنجنيق فأحرقته، فتوقف أهل الشام عن الرمي والمحاصرة، فخطبهم الحجاج فقال: ويحكم ألم تعلموا أن النار كانت تنزل على من قبلنا فتأكل قربانهم إذا تقبل منهم؟ فلولا أن عملكم مقبول ما نزلت النار فأكلته، فعادوا إلى المحاصرة.
ومازال أهل مكة يخرجون إلى الحجاج بأمان، ويتركون ابن الزبير، حتى خرج إليه قريب من عشرة آلاف فأمّنهم، وقل أصحاب ابن الزبير جداً، حتى خرج إلى الحجاج حمزة وخبيب ابنا عبد الله بن الزبير، فأخذا لأنفسهما أماناً من الحجاج، فأمنهما، ودخل عبد الله بن الزبير على أمه، فشكا إليها خذلان الناس له، وخروجهم إلى الحجاج حتى أولاده وأهله، وأنه لم يبق معه إلا اليسير، ولم يبق لهم صبر ساعة، والقوم يعطونني ما شئت من الدنيا فما رأيك؟ فقالت: يا بني أنت أعلم بنفسك، إن كنت تعلم أنك على حق، وتدعو إلى حق، فاصبر عليه، فقد قتل أصحابك، ولا تُمكّن من رقبتك يلعب بها غلمان بني أمية، وإن كنت إنما أردت الدنيا، فلبئس العبد أنت، أهلكت نفسك، وأهلكت من قتل معك، وإن كنت على حق، فما وهن الدين، وإلى كم خلودك في الدنيا؟ القتل أحسن. فدنا منها فقبل رأسها، وقال: هذا والله رأيي. ثم قال: والله ما ركنت إلى الدنيا، ولا أحببت الحياة فيها، وما دعاني إلى الخروج إلا الغضب لله أن تستحل حرمته، ولكني أحببت أن أعلم رأيك، فزدتيني بصيرة على بصيرتي، فانظري يا أماه، فإني مقتول من يومي هذا، فلا يشتدّ حزنك، وسلّمي لأمر الله، فإن ابنك لم يتعمّد إتيان منكر، ولا عمل فاحشة قط، ولم يَجُرْ في حكم الله، ولم يغدر في أمان، ولم يتعمّد ظلم مسلم ولا معاهد، ولم يبلغني ظلم عن عامل فرضيته، بل أنكرته، ولم يكن عندي آثر من رضا ربي - عز وجل -، اللهم إني لا أقول هذا تزكية لنفسي، اللهم أنت أعلم بي مني ومن غيري، ولكني أقول ذلك تعزيةً لأمي؛ لتسلو عني، فقالت أمّه: إني لأرجو من الله أن يكون عزائي فيك حسناً إن تقدمتني أو تقدمتك ففي نفسي، اخرج يا بني حتى أنظر إلى ما يصير إليه أمرك، فقال: جزاك الله يا أمه خيراً فلا تدعي الدعاء قبل وبعد لي. فقالت: لا أدعه أبداً، فمن قتل على باطل فقد قتلت على حق. ثم قالت: اللهم ارحم طول ذلك القيام في الليل الطويل، وذلك النحيب والظمأ في هواجر المدينة ومكة، وبرّه بأبيه وبي، اللهم إني قد سلمته لأمرك، ورضيت بما قضيت، فقابلني في عبد الله بن الزبير بثواب الصابرين الشاكرين. ثم قالت له: ادن مني أودعك. فدنا منها، فقبّلته ثم أخذته إليها فاحتضنته لتودعه، واعتنقها ليودعها، وكانت قد أضرت في آخر عمرها فوجدته لابساً درعاً من حديد، فقالت: يا بني ما هذا لباس من يريد ما تريد من الشهادة. فقال: يا أماه، إنما لبسته لأطيّب خاطرك وأسكّن قلبك به. قالت: لا يا بنيّ، ولكن انزعه، فنزعه، وجعل يلبس بقية ثيابه، ويتشدّد، وهي تقول: شمّر ثيابك. وجعل يتحفّظ من أسفل ثيابه لئلا تبدو عورته إذا قتل، وجعلت تذكره بأبيه الزبير، وجدّه أبي بكر الصديق، وجدّته صفيّة بنت عبد المطلب، وخالته عائشة زوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وترجّيه القدوم عليهم إذا هو قتل شهيداً. ثم خرج من عندها فكان ذلك آخر عهده بها رَضْيَ اللَّهُ عنْهَا وعن أبيه وأبيها، ثم قالت: امضِ على بصيرتك، فودّعها وخرج وهو يقول:
لست بمبتاع الحياة بسُبَّةٍ ... ولا مرتقٍ من خشية الموتِ سُلّماً
قالوا: وكان يخرج من باب المسجد الحرام، وهناك خمسمائة فارس وراجل، فيحمل عليهم فيتفرقون عنه يمناً وشمالاً، ولا يثبت له أحد، وهو يقول:
إني إذا أعرف يومي أصبره ... إذ بعضهم يعرف ثم ينكر
ويقول أيضاً:
الموت أكرم من إعطاء منقصةٍ ... من لم يمت غبطة فالغاية الهَرَمُ
وكانت أبواب الحرم قد قلّ من يحرسها من أصحاب ابن الزبير، وكان لأهل حمص حصار الباب الذي يواجه الكعبة، ولأهل دمشق باب بني شيبة، ولأهل الأردن باب الصفا، ولأهل فلسطين باب بني جمح، ولأهل قنسرين باب بني سهم، وعلى كل باب قائد ومعه أهل تلك البلاد، وكان الحجاج، وطارق بن عمرو في ناحية الأبطح.
لو كان قرني واحداً كفيته
فيقول ابن صفوان وأهل الشام أيضاً: إي والله، وألف رجل.
ولقد كان حجر المنجنيق يقع على طرف ثوبه فلا ينزعج بذلك، ثم يخرج إليهم فيقاتلهم كأنه أسد ضارٍ، حتى جعل الناس يتعجبون من إقدامه وشجاعته، فلما كان ليلة الثلاثاء السابع عشر من جمادى الأولى من هذه السنة، بات ابن الزبير يصلي طول ليلته، ثم جلس فاحتبى بحميلة سيفه فأغفى، ثم انتبه مع الفجر على عادته، ثم قال: أذِّن يا سعد. فأذن عند المقام، وتوضأ ابن الزبير ثم صلّى ركعتي الفجر ثم أقيمت الصلاة، فصلى الفجر فقرأ سورة ((ن)) حرفاً حرفاً، ثم سلّم فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال لأصحابه: ما أراني اليوم إلا مقتولاً، فإني رأيت في منامي كأن السماء فرجت لي فدخلتها، وإني والله قد مللت الحياة، وجاوزت سني اثنتين وسبعين سنة، اللهم إني أحبّ لقاءك فأحب لقائي. ثم قال: اكشفوا عن وجوهكم حتى أنظر إليكم، فكشفوا عن وجوههم وعليهم المغافر، فحرّضهم وحثّهم على القتال والصبر، ثم نهض بهم فحمل وحملوا حتى كشفوهم إلى الحجون، فجاءته آجُرَّةٌ فأصابته في وجهه، فارتعش لها، فلما وجد سخونة الدم يسيل على وجهه تمثّل بقول بعضهم:
فلسنا على الأعقاب تدمى كلومنا ... ولكن على أقدامنا تقطر الدما
ثم رجع فجاءه حجر منجنيق من ورائه فأصابه في قفاه فوقذه، ثم وقع إلى الأرض على وجهه، ثم انتهض فلم يقدر على القيام، وابتدره الناس، فشدّ عليه رجل من أهل الشام، فضرب الرجل فقطع رجليه وهو متكئ على مرفقه الأيسر، وجعل يضرب وما يقدر أن ينتهض، حتى كثروا عليه، فابتدروه بالسيوف، فقتلوه - رضي الله عنه -، وجاءوا إلى الحجاج فأخبروه، فخر ساجداً قبَّحه الله، ثم قام هو وطارق بن عمرو حتى وقفا عليه وهو صريع، فقال طارق: ما ولدت النساء أذْكَرَ من هذا. فقال الحجاج: تمدح من يخالف طاعة أمير المؤمنين؟ قال: نعم هو أعذر لنا، إنا محاصروه، وليس هو في حصن ولا خندق ولا منعة ينتصف منا، بل يفضل علينا في كل موقف، فلما بلغ ذلك عبد الملك صوّب طارقاً.
وانظر: الكامل في التاريخ لابن الأثير، 4/ 348 - 357، وتاريخ الطبري، 6/ 187 - 192، والمنتظم في تاريخ الملوك والأمم لابن الجوزي، 6/ 124 - 127.