نام کتاب : أنس المسجون وراحة المحزون نویسنده : الحلبي، صفي الدين جلد : 1 صفحه : 98
الدنيا، ويحرص على عمارة ما يخلق آخره، ويدرس أثره؛ قد امتلأت به الآفاق، وشغلت به الأمكنة، وقد مالت إليه الحواس بكلّيتها فرجعت عن إدراكه كالّة حائرة. وإنهما شيئان اثنان شيء يولد فينمو وشيء ينبت فينمو وكلاهما مقرون به الهلاك. أو لم يبلغك أنه قيل لهذا الدار حين بنيت:
يا والدة الموتى، ومرتجعة العطيّة، وناقضة كلّ مبروم، أو لم تري كلّ مخلوق يجري على ما ليس يدري؟ وأنّ كلّ مستقرّ منهم غير راض باستقراره، أم هل رأيتم معطيا لا يأخذ، ومقرضا لا يتقاضى، ومستودعا لا يردّ وديعته؟ ولئن يكن أحد حقيقا بالبكاء فلتبك السّماء على نجومها، ولتبك البحار على حيتانها، وليبك الجو على أجناس الطير المختلفة في الهواء، ولتبك الأرض على سكّانها، وليبك الإنسان على نفسه التي تموت في كلّ ساعة ولحظة وطرفة، وأجلها يطلبها، بل علام يبكي الباكي؟ لفقد من فقد من قبل أن يفارقه فأتاه ما لم يكن يحسب، وتوقّع ما لم يكن يحذر؛ فيحدث له البكاء والحزن. يا أمّاه، إنّ الموت والفناء لا يبقيان العزيز، ولا يتركان الذّليل.
وقد عرفت سبيل المنهج والطّريق الواضح الذي ما عنه معدل، بل إليه كلّ يصير، ولا يتعبنّك الحزن والبكاء من بعدي؛ فإنّك لم تكوني جاهلة بأنّي من الذين يموتون. وقد كتبت كتابي هذا أرجو أن تتعزّي [1] به وأن يحسن منك موقعه، فلا تخلفي ظنّي، ولا تحزني روحي، فإنّي قد علمت يقينا أنّ الذي أذهب إليه خير [2] من المكان الذي كنت فيه، وأكرم وأطهر وأحسن من الحزن والنّصب والهمّ والألم، فاغتبطي بمذهبي واستعدّي للقائي.
يا أمّاه أرفية، اذكري أنّ ذكري قد انقطع عن أهل الدنيا بما كنت أذكر من عزّ سلطاني وملكي فاجعلي لي من بعد ذكري صبرك على عظيم ما نزل بك من [1] في الأصل تتعزين. [2] في الأصل خيرا.
نام کتاب : أنس المسجون وراحة المحزون نویسنده : الحلبي، صفي الدين جلد : 1 صفحه : 98