والغزالي يجعل لهذه اللطيفة التي تتوارد عليها الأسامي المختلفة خمس مراتب
تتدرج بحسب عمر الإنسان وطبيعته التي خلقه الله عليها، فهي تبدأ بالحس، ويشترك فيه
الإنسان والحيوان، ثم تنشأ قوة الخيال، وهي التي تحفظ ما أوردته الحواس لتعرضه على
العقل عند الحاجة إليه، ثم ينشأ إدراك المعاني الخارجة عن الحس والخيال، وهي التي تسمى
الأوليات العقلية [2]، ثم يتم التزاوج بين تلك الأوليات بالتفكر والنظر لاستنتاج المعارف، وتتسلسل
تلك الاستنتاجات بحسب قوة العقل إلى ما لانهاية.
وكل هذه المراتب كسبية، وطبيعة الإنسان التي جبل عليها هي التي تحدد مدى استعداده
لحصولها، وبعدها تأتي المرتبة الأخيرة من مراتب العقل كما يرى الغزالي، وهي المرتبة
التي تتجلى فيها لوائح الغيب وأحكام الآخرة وجملة من معارف ملكوت السماوات والأرض،
بل من المعارف الربانية التي يقصر دون إدراكها أو تصورها العقل والفكر، كما يقصر الحس
أو الخيال عن إدراك أحكام العقل والفكر[3].
وهذا العقل هو الذي يتحدث عنه الصوفية ويسميه الغزالي نور البصيرة [4]، ولهذا فإن جميع الأحكام والعلوم صادرة أو منتقشة في جوهر الإنسان وعقله،
وإنما تختلف طريقة ظهورها ومدى وضوحها باختلاف طبائع الناس واستعداداتهم ومجاهداتهم.
[2] هي
التي لا يفتقر العقل بعد معرفتها إلى دليل لا من حدس أو تجربة أو نحو ذلك، كقولهم
الواحد نصف الاثنين، والكل أكبر من الجزء، فإن هذا الحكم لا يتوقف إلا على تصور
الطرفين وهو أخص من الضرور (الجرجاني، التعريفات ص53).