لا شك أنك لم تفهم ما قلت، سأضرب لك مثالا: لو أن رجلا زار
مصر، فقال: زرت مصرا، فتجولت في القاهرة في يومين، وأنهيت جولتي في الإسكندرية في
أربعة أيام ثم عدت إلى بلدي.. لا شك أن هذا لم يمكث في مصر إلا أربعة أيام فقط،
وليس ستة أيام لأن قوله: في يومين في أربعة أيام، يعني يومين في القاهرة ويومين في
الإسكندرية..
ويشبه هذا ما ورد في الحديث من قول محمد:( إن أحدكم يجمع
خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة، ثم يكون علقة في مثل ذلك، ثم يكون مضغة في مثل
ذلك ) فإن هذا جميعه في أربعين يوما فقط، وليس في مائة وعشرين يوما، كما فهمه من
فهمه خطأ، ويدل لهذا ما ورد من النصوص من أن الخلق يتم بعد اثنين وأربعين يوما.
سكت قليلا، ثم قال: لهذه المسألة تفاصيل كثيرة لا تبرئ
القرآن فقط من التناقض.. بل تبرز نواح من الإعجاز لن أذكرها لك أنا.. ولعلك تجد في
مستقبل حياتك من الفلكيين من يشرحها لك[1].
[1] انظر: رسالة (معجزات علمية) من هذه
السلسلة، وفيها إجابة أخرى نرى أنها أرجح من هذه الإجابة، وهي أن أيام الخلق الستة
التي ذكرتها الكتب المقدسة تمثل المدة الزمنية التي تطلبها خلق الكون منذ الانفجار
الكوني العظيم الذي ملأ الفضاء بالدخان إلى أن يفنى الله هذا الكون ويعيده من حيث
بدأ مصداقا لقوله تعالى:) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ
فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا
طَائِعِينَ) (فصلت:11)، وقوله تعالى:)يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ
لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا
كُنَّا فَاعِلِينَ) (الانبياء:104)
وقد
تفرد القرآن الكريم خلافا للكتاب المقدس بأنه قسم فترة الستة أيام التي خلق الله
بها السماوات والأرض إلى فترتين: هما فترة خلق الأرض الأولية وكذلك السماوات والتي
استغرقت يومين من هذه الأيام الستة، وفترة تقدير الأقوات في هذه الأرض، والتي
استغرقت الأيام الأربعة المتبقية.
ففترة
خلق الأرض الأولية تمثل المدة الزمنية التي مرت على الأرض منذ أن كانت في حالة
الدخان إلى أن أخذت موقعها في مدار ثابت حول الشمس على شكل كرة ملساء ملتهبة ذات
سطح شبه سائل.
أما
فترة تقدير الأقوات فهي الأيام الأربعة المتبقية من أيام الخلق وقد حدد الله علامة
بارزة لبداية هذه الأيام الأربعة التي أكمل الله فيها تجهيز الأرض وهذه العلامة
هي تكون الجبال فوق سطح الأرض.
ومن
الطبيعي أن تكون الجبال أول ما ظهر على سطح الأرض وبالتالي أول أحداث تهيئة الأرض
فالأرض كانت قبل ذلك كرة ملساء وسطحها حار جدا وشبه سائل وكانت تغلي وتفور بسبب
الحرارة الشديدة التي في باطنها كما سيكون مصيرها عند قيام الساعة لقوله تعالى:)
)وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً فَيَذَرُهَا
قَاعاً صَفْصَفاً لا تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً) (طـه:105-107)
وكلمة
الأقوات في الآية تعني كل ما يلزم من شروط ظهور الحياة على سطح الأرض، فالقوت
للكائن الحي هو ما يلزمه من طعام يبقيه على قيد الحياة.
وفي
هذه الأيام الأربعة التي قدّر الله فيها أقوات الأرض تكونت الجبال والقارات
والمحيطات والبحيرات والأنهار وتشكل الغلاف الجوي الذي بدأ بحماية الأرض من بقايا
الشهب التي كانت ترشق الأرض من الفضاء الخارجي وامتلأ كذلك بمختلف أنواع الغازات
التي ستلزم لحياة الكائنات الحية.
وبعد
أن وفر الله كل أسباب الحياة على هذه الأرض بدأت الحياة الأولية بالظهور عليها،
ومن ثم خلق الله النباتات والحيوانات ومن ثم خلق الله الإنسان في آخر ساعة من
ساعات اليوم السادس من أيام الخلق كما جاء ذلك في الأحاديث النبوية.
وقد
تمكن العلماء في مختلف التخصصات من رسم صورة واضحة وتفصيلية لجميع الأحداث التي
مرت على الأرض منذ أن كانت كرة ملتهبة إلى أن أصبحت على هذا الشكل البديع التي هي
عليه الآن.
انظر
التفاصيل المرتبطة بهذا في كتاب: بداية الخلق في القرآن الكريم، د. منصور العبادي،
دار الفلاح للنشر والتوزيع، عمان، الأردن، طبعة 2006م.