يبقى الفرق بين الوصفين أن حسن
الوجوه وملاحتها وتفضيل بعضها يدركه كل من له عين صحيحة، وأما الكلام فلا يعرفه
إلا بالذوق، وليس كل من اشتغل بالنحو أو باللغة أو بالفقه كان من أهل الذوق، وممن
يصلح لاتنقاد الكلام، وإنما أهل الذوق هم الذين اشتغلوا بعلم البيان وراضوا أنفسهم
بالرسائل والخطب والكتابة والشعر، وصارت لهم بذلك دربة وملكة تامة، فإلى أولئك
ينبغى أن يرجع في معرفة الكلام وفضل بعضه على بعض )[1]
سكت قليلا، ثم قال: لقد حاول بعض المحللين معرفة بعض سر
ذلك، فذكر أن كون النظم معجزاً يتوقف على بيان نظم الكلام، ثم بيان أن هذا النظم
مخالف لنظم ما عداه.
ثم ذكر ان مراتب تأليف الكلام خمس.. تبدأ بضم الحروف
المبسوطة بعضها إلى بعض لتحصل الكلمات الثلاث الاسم والفعل والحرف.. والثانية:
تأليف هذه الكلمات بعضها إلى بعض لتحصل الجمل المفيدة، وهو النوع الذي يتداوله
الناس جميعاً في مخاطباتهم وقضاء حوائجهم، ويقال له المنثور من الكلام.. والثالثة:
يضم بعض ذلك إلى بعض ضماً له مباد ومقاطع ومداخل ومخارج، ويقال له المنظوم..
والرابعة: أن يعتبر في أواخر الكلام مع ذلك تسجيع، ويقال له المسجع.. والخامسة: أن
يجعل مع ذلك وزن، ويقال له الشعر والمنظوم، إما محاورة ويقال له الخطابة، وإما
مكاتبة ويقال له الرسالة.
فأنواع الكلام لا تخرج عن هذه الأقسام، ولكل من ذلك نظم
مخصوص، والقرآن جامع لمحاسن الجميع على نظم غير نظم شيء منها يدل على ذلك، لأنه لا
يصح أن يقال له رسالة أوخطابة أو شعرا أوسجعا، كما يصح أن يقال هوكلام، والبليغ
إذا قرع سمعه فصل بينه وبين ما عداه من النظم، ولها ورد في القرآن:{ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ
عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ
تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ }(فصلت:42) تنبيهاً على أن تأليفه ليس على هيئة نظم
يتعاطاه البشر،