لا أزال أذكر ذلك اليوم المبارك من شهر رمضان المعظم، وفي ليلة من ليالي
الوتر منه، حينها كنت معتكفا في مسجد من المساجد، وكنت حريصا على أن أصادف ليلة
القدر، تلك الليلة التي نزل فيها القرآن الكريم.. والتي أخبر الله تعالى أنها أفضل
من ألف شهر.. ولذلك كنت أتنقل بين القراءة والذكر والصلاة والدعاء رجاء أن يضاعف
لي كل ذلك.
لكني فجأة تألمت لحالي، ونظرت إلى نفسي نظرة احتقار على
تلك التصرفات التي كنت أقوم بها من غير وعي..
لقد كان لساني يردد كلمات ربي المقدسة من غير أن أنفعل
لها، أو أتأثر بها، وكأنني أقرأ قصيدة أو رواية.. لا كلام الله مبدع الوجود
جميعا..
لقد كنت منشغلا بجمع الحسنات، وما يتبعها من الأجور عن
تدبر القرآن الكريم والتأثر به والترقي من خلاله في معارج الكمال.
لقد كنت أرتل الكلمات التي تختصر كل حقائق الوجود، وتصفها
وصفا دقيقا.. بل تعطي الحلول لكل المشكلات.. بل تجمع كل سنن الكون والحياة
والمجتمع في كلمات معدودات.. ومع ذلك لم أكن أستفيد منها إلا تلك الحركات التي
يتحرك بها لساني.
لذلك ثرت على نفسي، وغضبت عليها غضبا شديدا.. ولست أدري
كيف رحت أتجول في أنحاء المسجد لأنفس عن نفسي ما عراها من الآلام.
وقد شاء الله أن تكون تلك الحركة مفتاحا لبركات عظيمة عرفت
من خلالها عظمة الكلمات المقدسة التي كلمنا الله بها..
لقد رأيت في ركن من أركان المسجد شيخا وقورا، يقرأ القرآن
الكريم من أعماق أعماقه.. ويبكي أثناء قراءته، وينفعل انفعالا شديدا، وكأن زلزالا
قد نزل بكيانه جميعا، فهزه، وحركه.