أضدادها أو نقائضها، فينشأ من
ردود الأفعال تغير لها، ولكن لا إلى ذات الطرف الذي سبق أن تركته في التغير الأول،
بل إلى تغير صاعد يجمع بين الطريحة والنقيضة جمعاً توفيقياً، وبهذا الجمع تسقط
صفات وعناصر دنيا خسيسة، وبذلك يحصل الارتقاء، وهذه هي الحالة التي أسميها
(الجميعة).. ويُحذفُ التناقض في هذه الحالة إذ يتم امتصاصه في شمولٍ أعلى.
ثم تغدو الحالة الثالثة
(الجميعة) من جديد (طريحة) تتغير إلى (نقيضة) جديدة، ثم إلى (جَمِعيةٍ) جديدةٍ
صاعدة.. وهكذا دواليك تذهب الدورات صاعدة.
التفت إلي، وقال: هذا هو طريق
الحقيقة.. وهذا هو (الديالكتيك)..
قال ذلك، ثم التفت إلى برعم
شجرة أمامه، وقال: هذا (البرعم) مثلا أعتبره (طريحة).. تأتي الزهرة، فتنفيه، وتصبح
الزهرة بالتالي (نقيضة).. ثم تأتي (الثمرة) التي هي الجميعة، وهي أسمى من البرعم
والزهرة.
قلت: فهمت الديالكتيك الذي يعرف
به منهجك.. فما المثالية؟
قال: أنا من فئة المثاليين،
الذين يؤمنون بالغيبي المجرد من الحسيات، لا من فئة الماديين، فأنا أؤمن بإلهٍ..
والله في تصوري هو الوجود غير المتناهي، وهو المطلق، وهو الحقيقة الكاملة.
بقيت في صحبته مدة.. إلى أن بان
لي أن ما يذكره قد يوصلني إلى بعض الحقائق.. ولكنه قد يوصلني في نفس الوقت إلى
كثير من السراب والأوهام..
فقد رأيته أن مذهبه من الناحية
العقلية المنطقية مبني على اجتماع الأضداد أو المتناقضات سواء في حالة اصطراعها
أو في حالة ائتلافها في الجميعة، ومنطق العقل يحكم جازماً باستحالة اجتماع الأضداد
أو المتناقضات في شيء واحد وزمن واحد[1].
[1] من الأصول العقلية البدهية
المقررة لدى الفلاسفة والمناطقة وسائر العقلاء والمفكرين أن النقيضين كالوجود
والعدم، وكإيجاب الشيء وسلبه، لا يجتمعان في شيء واحد ووقت واحد، واجتماعهما
مستحيل عقلاً. ولا يرتفعان معاً من شيء واحد في وقت واحد، وارتفاعهما معاً مستحيل
عقلاً.. فلا يكون الشيء الواحد في الوقت الواحد موجوداً ومعدوماً معاً، ولا موجباً
وسالباً معاً من الجهة التي يكون فيها موجباً.. ولا يكون الشيء الواحد في الوقت
الواحد غير موجود وغير معدوم معاً، أو غير موجب وغير سالب معاً.
أما
الضدان كالأبيض والأسود، فلا يجتمعان معاً في شيء واحد ووقت واحد، واجتماعهما معاً
مستحيل عقلاً. فلا يكون الشيء الواحد بالذات أبيض وأسود معاً من الجهة نفسها في
وقت واحد.. لكن الضدين قد يرتفعان معاً في وقت واحد، فيكون الجسم لا أبيض ولا أسود
معاً في وقت واحد،إذ قد يكون أحمر أو أصفر أو غير ذلك من ألوان.
ومن
الملاحظ أن الجدلية قد نسفت هذا الأصل العقلي المنطقي نسفاً كلياً، فأقامت الوجود
كله على فكرة اجتماع الأضداد أو المتناقضات واتحادها.
وفي
ادعاء اتحاد الأضداد والمتناقضات استهانة بالغة بالعقل البشري، وإقامة مذهب كامل
لبني الإنسان، على أمر باطل واضح البطلان.
إن
اللحظة التي يكون فيها الشيء متحركاً، لا يمكن أن يكون فيها ساكنا، واللحظة التي
يكون فيها ساكناً لا يمكن أن يكون فيها متحركاً.
ولكن
الشيء الواحد قد تتداول عليه الحركة والسكون بلحظات متتابعات مهما صغرت ودقت هذه
اللحظات، وقد ينخدع بذلك بعض أهل الفلسفة، فيظن أن السكون كامن في الحركة، فيعتبر
ذلك من اجتماع النقيضين، وليس الأمر كذلك.
وقد
يمثل مدعو اجتماع الضدين أو النقيضين بتماس السالب والموجب في الكهرباء، الذي ينجم
عنه الظواهر الضوئية والحركية، لكن التمثيل بهذا تمثيل باطل، فالسالب والموجب في
الكهرباء ليسا ضدين ولا نقيضين منطقيين.
إن
السالب المنطقي للكهرباء هو لا كهرباء، ويصدق ذلك بأي شيء غير كهرباء في الوجود،
فالخشب والحجر والتراب والثلج والملح والحلاوة والملاسة والخشونة وغير ذلك كلها
ليست بكهرباء.
أما
السلك السالب في الكهرباء، فليس هو السالب المنطقي للكهرباء، إنما هو مشتمل على
قوة أخرى منافرة للقوة الكهربائية.
فالموجب
والسالب في الكهرباء قوتان متنافرتان متقابلتان، إذا تماسا تفاعلا، فأنتجا بحسب
قوانين إنتاجهما ظواهر ضوئية أو حركية، كالذكر والأنثى، وما ينتج عنهما.
إن
القوى المتنافرة والمتآلفة والمتفاوتة كلها إذا تلاقت أو تماست أو اجتمعت كانت ذات
آثارٍ ما، وآثارها تخضع لقوانين خاصة بكل منها. (انظر: كواشف زيوف، لحبنكة)