ثم قال: (إلهي عصيتك قويا، وأسخطتك جلدا.. وها أنا أريد التوجه إليك،
وأنا ضعيف..وأريد خدمتك وأنا نحيف.. فليت شعري هل تقبلني؟)
قال ذلك.. ثم جد في العبادة واجتهد.. إلى أن لاحت عليه أنوارها.. وامتلأ
قلبه بأسراها.
بعد أن انتهى الرجل من حسابه لنفسه، اقتربنا منه، وقلت له: كأني بك لم
تسمع ما ورد في سعة فضل الله.. فلذلك أراك تحاسب نفسك محاسبة الغريم.. بل تحاسبها
محاسبة العدو لعدوه.
قال: وما لي لا أحاسبها.. وقد جربتها عندما أرخيت لها العنان، فأسقطتني
في المهالك التي لولا أن الله أنقذني منها لكنت من الهالكين..
قال ذلك، ثم نظر إلى الأفق البعيد، وراح يردد بصوت ممتلئ بحشرجة الدموع[1]: إن لله عباداً نصبوا أشجار الخطايا نصب
روامق القلوب، وسقوها بماء التوبة فأثمرت ندماً وحزناً، فجنوا من غير جنون،
وتبلدوا من غير عي ولا بكم، وإنهم هم البلغاء الفصحاء العارفون بالله ورسوله، ثم
شربوا بكأس الصفاء فورثوا الصبر على طول البلاء، ثم تولهت قلوبهم في الملكوت وجالت
أفكارهم بين سرايا حجب الجبروت، واستظلوا تحت رواق الندم وقرؤوا صحيفة الخطايا
فأورثوا أنفسهم الجزع حتى وصلوا إلى علو الزهد بسلم الورع، فاستعذبوا مرارة الترك
للدنيا، واستلانوا خشونة المضجع حتى ظفروا بحبل النجاة وعروة السلامة، وسرحت
أرواحهم في العلا حتى أناخوا في رياض النعيم وخاضوا في بحر الحياة وردموا خنادق
الجزع وعبروا جسور الهوى حتى نزلوا بفناء العلم واستقوا من غدير الحكمة وركبوا
سفينة الفطنة وأقلعوا بريح النجاة في بحر السلامة حتى وصلوا إلى رياض الراحة ومعدن
العز والكرامة، فهذا القدر كاف في بيان أن كل توبة صحيحة مقبولة لا محالة.