ففي الموضع الأول يعلمنا الله تعالى أن لا نقيم وزناً لاِرجاف
المرجفين في العدول بالصلاة من بيت المقدس إلى المسجد الحرام، كما يحكي سبحانه
وتعالى عنهم بقوله:﴿ سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ
النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ
لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ (البقرة:142)
وفي الموضع الثاني يبطل الله تعالى ألوهية المسيح ـ عليه السلام
ـ بحجّة أنّه وليد مريم ـ عليها السلام ـ بأنّ تولده بلا أب يشبه تكوّن آدم من غير
أب ولا أُم، ثم يخاطب النبي a بعد ذلك بقوله:﴿
الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ (آل عمران:60).. ولا شك ـ عند العقلاء ـ
أنّ الخطاب جرى مجرى (إياك أعني واسمعي يا جارة)، فإنّ النبي a كان أعظم من أن يتسرب إليه الشك في
مثل هذا.
وهكذا سائر المواضع.. فالنهي عن الشك نهي موجه للأمة عن طريق
نبيها.. لا أنه موجه للنبي بسبب احتمال وقوع الشك منه.
قام رجل آخر، وقال: فما تقول في قوله تعالى:﴿ وَلا
تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ
مَنْ كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً ﴾
(النساء:107)، فإن هذه الآية الكريمة تنهى النبي a عن المجادلة عن الخائنين.. ومثلها
قوله تعالى:﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ
لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ
خَصِيماً ﴾ (النساء:105)
قال الحكيم: لم يكن النبي a في أي لحظة من لحظات حياته مدافعاً
عن الخائنين، وانّما وردت الآية بهذا الأسلوب من باب تربية المجتمع وتوجيهه
وتحذيره من هذا النوع من السلوك، وبما أنّ أكثر الناس لا يتحمّلون الخطاب الحاد،
بل يكون مرّاً في أذواق أكثرهم،