وقد تحمل a في سبيل ذلك أذى
المشركين والمنافقين واليهود ومن في حكمهم بالصبر تارة وبالجهاد معهم تارة أخرى
طيلة ربع قرن من الزمن تقريبًا.لقد أقام a في مكة بعد بدء
التبليغ عشر سنين، يدعو إلى أصول الإيمان وكليات الدين، من التوحيد الخالص، والعمل
الصالح، وتزكية النفس بتطهيرها من أدران الرذائل، وتحليتها بأحاسن الأخلاق وعقائل
الفضائل، واستعمال نعم الله تعالى من بدنية وعقلية، وسماوية وأرضية، فيما تظهر به
حكمه ونشاهد آياته في الخلق، وتتسع بها العلوم التي يعرف بها الحق وتكثر موارد
الرزق، صابرًا مع السابقين من المؤمنين، على الاضطهاد والأذى من المشركين.وقد
عرضوا عليه حينها الملك والمال والدثر، على أن يترك هذا الأمر، ولو كان خرج لطلب
الرياسة لآثرها على الضعف والفقر.ثم هاجر a إلى المدينة،
وفيها ازدادت جهوده، وضم إليها الجهاد في سبيل الله لحماية الدعوة، وحماية
مكتبسباتها.. فكاد a داعية معلما مجاهدا لا يهدأ أبدا، ولا يسكن
إلى راحة.وقد أثمرت هذه الجهود العظيم من الثمار ما لا يزال الناس ينعمون به إلى
اليوم.. وقد شهد له a بنجاحه في تلك الوظيفة التي كلف بها الجموع
الكثيرة من الناس، سواء كانوا من صحابته[1] أو من غيرهم في
حجة الوداع حينما قال لهم أثناء خطبته بوادي عرنة في يوم عرفة:
[1] للمؤلف رأي في هذا، وهو
أن المراد بالصحابة من تربى على يده a بحيث أصبح مثالا حسنا للدين الذي جاء به a أما من عداهم كالطلقاء
وغيرهم، أو من لم يظفروا بمثل هذا، فلا دليل من النصوص على اعتبارهم صحابة.
وهؤلاء هم الذين اتفقت الأمة بطوائفها المختلفة على اعتبارهم وتبجيلهم،
وهم الذين وصفهم الإمام علي، فقال: (لقد رأيت أصحاب محمد a، فما أرى أحداً يشبههم منكم لقد كانوا يصبحون شعثاً غبراً، وقد باتوا
سجّداً وقياماً يراوحون بين جباهِهِم وخدودهم ويقفون على مثل الجمر من ذكر معادهم،
كأن بين أعينهم رُكب المعزى من طول سجودهم، إذا ذكر الله هملت أعينهم حتى تبُلَّ جيوبهم،
ومادوا كما يميد الشجر يوم الريح العاصف، خوفاً من العقاب ورجاءً للثواب)
أما القول المتداول بأن الصحابي هو كل من رأى رسول الله a، فهو اجتهاد لا دليل
عليه، بل هو يضر رسول الله a، ويضر سنته، فلا نستطيع أن ننسب ما فعله معاوية من الحكم
الاستبدادي الوراثي إلى صاحب لرسول الله a، لأن ذلك يجعل مما فعله سنة
معتبرة، وربما يكون المدافع عن معاوية ـ شعر أو لم يشعر ـ مدافعا عن سنة
الاستبداد.
وإنما ذكرنا هذا هنا حتى لا نحمل رسول الله a ما لا يحتمل.. فقد بلغ رسول الله a عن ربه، وهو ليس مسؤولا
بعد ذلك هل التزم الناس أو لم يلتزموا، وقد ورد في الحديث الصحيح قوله a:( ترد على أمتي الحوض
وأنا أذود الناس عنه كما يذود الرجل إبل الرجل عن إبله، قالوا: يا نبي الله!
تعرفنا؟ قال: نعم لكم سيماء ليست لاحد غيركم، تردون على غرا محجلين من آثار
الوضوء، وليصدن عني طائفة منكم فلا يصلون فأقول: يا رب! هؤلاء من أصحابي، فيجيبني
ملك فيقول وهل تدري ما أحدثوا بعدك؟) رواه مسلم، وفي حديث آخر:( ليردن على ناس من
أصحابي الحوض حتى إذا رأيتهم وعرفتهم اختلجوا دوني فأقول: يا رب! أصيحابي أصيحابي!
فيقال لي إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك) رواه البخاري ومسلم.