قال الحكيم: ألا ترى أن الآية الكريم تدعو إلى معاملة المعتدين
بالمثل.. ثم تعلل ذلك للنفوس المؤمنة الكارهة لسفك الدماء بأن الفتنة التي يوقعها
هؤلاء المجرمون أعظم من القتل.
فتح دوج المصحف، وراح يقرأ:﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ
وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى
الظَّالِمِينَ﴾ (البقرة:193).. ألا ترون أن هذه
الآية تأمر بالقتال لأجل نشر الدين؟
قال الحكيم: لا.. إنها لا تأمر بالقتال لنشر الدين.. وإنما تأمر
به لحفظ الدين.
قال دوج: كلاهما سواء.
قال الحكيم: لا.. بل هما مختلفان.. فالقتال لنشر الدين إكراه..
وقد حرم الإكراه، وقد قال تعالى:﴿ لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ
تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾ (البقرة:256).. أما القتال لحفظ الدين،
فهو قتال ضد الذين توجهوا برماحهم وسيوفهم للدين ليستأصلوه.
لقد ذكر القرآن ذلك، فقال تعالى مبينا علة الإذن
بالقتال:﴿ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ
اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ
بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ
النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ
وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ
يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40)﴾ (الحج)
ومع ذلك.. فقد جعل القرآن لذلك القتال المضطر إليه غاية ينتهي
إليها، وهي انتهاء المعتدين عن عدوانهم، فقال تعالى:﴿ فَإِنِ انْتَهَوْا
فَلا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ ﴾ وقد وضعت الآية بذلك شعار المؤمنين في
قتالهم.. وهو أنهم لا يقاتلهم إلا الظالمين.. أما من عداهم، فلا يجوز بحال من
الأحوال سفك دمائهم.