خرجت من كربلاء، قاصدا عاصمة العراق (بغداد) قبل أن يزورها
أولئك الظلمة الذين خربوا بنيانها، وقتلوا إنسانها، وأتوا بكل معاولهم ليحطموا
حضارتها، غير مراعين في ذلك حرمة، ولا مستجيبين لنداء ضمير.
وفي حي من أحيائها العتيقة قصدت سوقا.. لعله أقدم الأسواق على
الأرض، وأكثرها عراقة.. كان السلام يطل بأجنحته عليه كما لا يطل على أي سوق آخر،
فلم يكن أهله يخشون متفجرات، ولا قنابل، ولا شرطة، ولا عسكرا.. بل ربما لم يكونوا
يسمعون بكل ذلك.
شعرت براحة عظيمة لم أدر لها سببا، وأنا أسير في جنباته أتأمل
دكاكينه، وما يعرض فيها من مختلف أنواع السلع قديمها وحديثها.
وقد شد انتباهي عدم ارتفاع الأصوات.. فقد كان الباعة كالمشترين
سواء بسواء لا يعرفون صخبا ولا صياحا ولا شيئا مما عهدته الأسواق، فصار سنة لازمة
فيها.
دخلت أحد الدكاكين، فرأيت البائع يعرض سلعة من السلع على زبون
من زبائنه، وقد شد انتباهي أن البائع يبالغ في وصف عيوب السلعة التي يريد أن
يبيعها أكثر من مبالغته في وصف محاسنها، وكأنه لا يهم ببيعها، أو كأنه لا يريد أن
تخرج من دكانه.
لكن المشتري مع ذلك أصر على شرائها، فاشتراها، وخرج ليترك لي
فرصة سؤال البائع عن سر إلحاحه في ذكر عيوب سلعته، فنظر إلي مبتسما، وقال: يظهر
أنك غريب عن هذه البلدة، أو عن هذا الحي خصوصا.
قلت: أجل.. هذه أول مرة أدخل هذا الحي، وهذا السوق.
قال: لقد تعاهد أهل هذا السوق على ألا يقع في أسواقهم إلا ما
أمر به رسول الله a.. وألا
ينتهوا إلا عما نهى عنه..