قال: لقد استن محمد a بسنة القرآن في ضرب الأمثال، فراح يعلم
كل من يتعلم على يديه حقيقة الدنيا، وحقيقة المواقف حولها، ليسير تلاميذه فيها وفق
ما تقتضيه الحقائق، لا وفق ما تقتضيه الأهواء.
لقد روي أن رسول الله a جلس على المنبر، فقال: (إن مما أخاف عليكم بعدي: ما يفتح
عليكـم من زهـرة الدنيـا وزينتها)، فقـال رجـل: أوَيـأتي الخيـر بالشـر يا رسول
الله؟ قال: فسكت رسول الله a، فقيل له: ما شأنك تكلم رسول الله ولا يكلمك؟ قال: ورأينا أنه
ينزل عليه، فأفاق يمسح عنه الرُّحَضاءَ، وقال: أين هذا السائل؟ ـ وكأنه حمده ـ
فقال: إنه لا يأتي الخير بالشر، وإن مما ينبت الربيع يقتل حَبَطًا[1]أو يُلم[2]، إلا آكلة الخْضِر[3]، فإنها أكلت، حتى إذا امتدت
خاصِرتاها استقبلت عين الشمس، فثلَطَت[4] وبالت، ثم رتعت، وإن هذا المال
خَضِرٌ حلو، ونعم صاحب المسلم هو لمن أعطى منه المسكين واليتيم وابن السبيل ـ أو
كما قال رسول الله a
ـ وإن من يأخذه بغير حقه كالذي يأكل ولا يشبع، ويكون عليه شهيدًا يوم القيامة)[5]
التفت إلي، فرأى وكأني لم أفهم المراد من المثل بدقة، فقال: في
هذا الحديث مثلان:
أحدهما: للِمُفْرطِ في جمع الدنيا، والآخر: لِلْمُقْتَصد في
أخذها والانتفاع بها.
فأمَّا قوله: (وإن مما يُنبت الربيع ما يقتل حَبَطًا أو
يُلِمَّ) فإنه مثل للمفرط الذي يأخذ الدنيا
[1] الحبط: انتفاخ بطن الدابة من الامتلاء أو من المرض؛ يقال:
حبط الرجل والدابة تحبطًا وحبطًا إذا أصابه ذلك.
[2] أو يلم: ألمَّ به يلمُّ: إذا قاربه ودنا منه. يعني: أو يقرب
من الهلاك.
[3] الخضِر: ضروب من النبات مما له أصل غامض في الأرض كالنصيِّ.
وليس من أحرار البقول وإنما هو من كلأ الصيف. والنَّعمُ لا تستكثر منه وإنما ترعاه
لعدم غيره.
[4] فثلطت: ثلط البعير يثلط: إذا ألقى رجيعه سهلاً رقيقًا.